هكذا تمكنّتُ من إيقاف الوقت، إلى حدٍّ ما!

نوفمبر 24, 2023

A-

A+

كيف نوقف الوقت؟ كيف نتغلّب عليه ونسبقه؟ هل هذا ممكن أم أنه حلم طفوليّ من قصص بيتر بان وعالمه الخيالي “نيفرلاند”؟

قبل الغوص في هذا السؤال العميق الفلسفي للبعض وربما السخيف المعروف الإجابة للبعض الآخر، لنحاول معاً أن نفسّر الوقت. كخفقان القلب يسير الوقت، وكخفقان القلب تعلم أنه موجود لكنك تنساه في معظم الأحيان، تنساه إلى حين أن يخذلك بلحظة مؤلمة، في خريف عمرك، فتتذكر وجوده، لكن، وفي معظم الأحيان، يكون الأوان قد فات، فتحاول بما تبقّى لك منه أن تحقق كل ما تريد وتطمح، وعبثاً تحاول، كمن يسابق التيار بعكس مساره، يجرفك أخيراً مهما عاندت وجاهدت.

ننسى الوقت وتمر الأيام كلها شبه بعضها: دراسة، عمل، عمل، دوام، فشل، نجاح، فشل، تفوّق… نفعل كل شيء لبناء مستقبل أفضل لنا ولمن نحب، وننسى أن أغلى ما نملك هو الحاضر، هو الآن، الذي نحرقه ونفرط به من أجل غد، غير مضمون.

أقول كل هذا لا من باب المزايدت والفلسفة الفوقيّة بل لأنّي اكتشفت قيمة الوقت باكراً بفعل تجربة استثنائيّة مع أشخاص استثنائيين لم أكن أتوقع منها الكثير إلا أنها للأمانة، أيقظتني من دوامة الروتين القاتل وجعلتني أدرك أن للحياة معان أخرى غير العمل والمكتب والقضايا الكبيرة والنضال المستمر والحقيقة الغائبة.

علّمتني أن آخذ الأمور ببساطة وفلا شيء يحرز ولا شيء سيهرب. صادفت من خلال تجربتي هذه أشخاصاً طبعوا شيءً ما بداخلي. صحيح أنه من الصعب كتابة المستقبل قبل حدوثه لكن هناك شعور بداخلي يقول أنه سيكون لهم مكاناً ما في حياتي لوقت طويل قادم. من كل شخص منهم تعلمت شيءً ما.

تعلمّت من إحداهنّ الفرح، والبحث عن الجمال والمرح حتى في أصغر الأمور، كورقة مطويّة، أو كأس نبيذ أو كرة غولف صغيرة أو منحوتة مجعّدة مصنوعة من طين. تعلمت أننا ولو كبرنا، يمكننا أن نترك في جزء من داخلنا، طفل يلعب، يضحك، وينظّم الخطط لتفادي العقاب. علمتني أن الفرص تصنع وأن المبادئ تدوم وأن الخسارة ممنوعة وأن ميسّي أفضل إنسان على وجه الأرض.

وجدت الطمأنينة بفضل شخص آخر، من أن الغد مشرق حتماً، من المبكر الحديث عنه، تعلمت الاستمتاع باللحظة الحالية والإهتمام بالآخر، والإصغاء لمن يحتاج أن يتكلم والحنية لمن ليس على ما يرام، وتجاهل السلبيّات من حولي. اكتشفت معهم اغنيات جديدة، وخطوات رقص غريبة، واعتدت على التفتيش عن عبوات بيرة في كل سيارة أوبر أطلبها.

شخص آخر، علمني أن أسأل كثيراً، فالإجابات بأجملها غير مقنعة من المرة الأولى. وأن أطمح عالياً وأن أعرف أكثر من ما أتكلم، وأن أتحدى ذاتي، وأواجه خوفي وعاداتي التي أريد تغييرها. تعلمت منه أن الوقوع في الخطأ، عادة إنسانية طبيعية لا عيب فيها، وإن المبادئ والقناعات يجب أن تبقى ثابتة، حتى لو تحركت الدنيا من حولنا وانجرف عالمنا إلى الفاسد والحلول الورقيّة. أقنتعت منه بأن التغيير ممكن والثبات واجب والذكاء لم يفنى من عقول أبناء جيلنا.

قد لا تصدقون هذا ولكننا نكبر بسرعة هنا على هذه البقعة من الأرض، أسرع من أي مكان آخر، نشيخ ونحن في ربيع عمرنا كمن يعيش عقداً من الزمن في سنة أو شهر.

لذا وأنا أصيغ هذه السطور من مكتبي في بيروت الجميلة، يغمرني شعور غريب بالإمتنان لكل شخص من هؤلاء الغرباء الذين صادفوا طريقي يوماً، فعلموا فيّي وغيروني بطرق لم أتصورها.

وإذا سألتموني الآن، هل بمقدارنا أن نوقف الوقت؟.. الجواب يبقى لا، لكننا من الحين إلى الآخر، يمكننا الهروب من نافذة صغيرة مع بضعة أصدقاء وزجاجة نبيذ إلى حيث لا هموم ولا حروب ولا نضوج مبكر… وهذا أقرب ما يكون إلى توقف الوقت في لحظة ساحرة دافئة، لفترة أطول.