من هدير السماء إلى هدير القذائف: تروما الرعد والقلق الدائم

نوفمبر 24, 2023

A-

A+

مع بدء هطول أولى أمطار الشتاء، مصحوبةً ببرقها ورعدها المُعتاد، تستيقظ تروما الحرب المدفونة داخل كلّ لبناني عاش ويلات القصف وعاشر صدى صوته المنكوب. في زمن باتت الحرب الشّاملة قاب قوسين وأدنى منه، أصبح من الطبيعي أن يتحوّل فصل الخير إلى نقمة يكرهها كثيرون، فأصوات الرعد المرتفعة توقظ داخلنا ذكريات زمن تلاحقنا ظلاله حتّى اليوم: زمن الحروب التي عاشرناها جيلًا بعد جيل وزمن الانفجار الأكبر الذي أفجع قلوبًا لا تزال تُضمّد جراحها المفتوحة.

نكاد لا نصدّق كيف نُغمض أعيننا المنهكة من أخبار الحرب اليوميّة، التي قد دخلناها بالفعل جنوبًا، حتّى يوقظنا صوتٌ أشبه بالموت. نرى شبح الحرب أمامنا بوضوح، نهمس صلواتنا الأخيرة ونحزم أمتعتنا لنغادر… فتُباغتنا حقيقة الشتوة الأولى!

تروي ريما، وهي من سكّان منطقة الضاحية الجنوبيّة، لمنصّة نقد، ما وصفته بـ”أسوأ كوابيسها”. فبحسب تعبيرها، هي “لا تنام اللّيل، خوفًا من أصوات الرعد المرتفعة. في منطقة تُعتبر من الأكثر عرضةً للقصف في حال توسّع رقعة الحرب، بات من الصّعب جدًّا أن أسمع أصوات الرعد والبرق من دون أن أظنّ للوهلة الأولى أنّنا نتعرّض لقصف إسرائيلي. الأمر ليس جديدًا عليّ، لقد كنت أبلغ الـ6 من عمري خلال حرب تموز، لكنّني أتذكّر جيّدًا أصوات القذائف والمدافع والطائرات. اليوم، كلّما صبّت السّماء جام غضبها علينا، أتأهّب للهروب، فتتهافت إلى ذاكرتي مشاهد ملاجئ الـ2006، التي اختبأت وعائلتي داخلها في الأيّام الأولى من اندلاع الحرب. أصبح اليوم موسم الشتاء مرادفًا للقلق والأرق… أخاف أن يتكرّر المشهد، فنعيش أيّامًا على صناديق الإعاشات، بعيدًا عن منزلنا الدافئ وحيّنا، الذي لا أدرك إلّا عندما أراه مدينة أشباح خالية من البشر، أنّه كان ينبض بالحياة. الآن، أصبح الشتاء ألدّ أعدائي!”.

أمّا بسام، وهو من سكّان بلدة ياطر الجنوبيّة، التي تتعرّض بين الحين والآخر لقصف إسرائيلي، فقد أكّد لنا: “بالرغم من أنّ أصوات القصف والقذائف أصبحت واقعًا اعتدنا عليه، إلّا أنّ صدى الرعد قد زاد الطينة بلّة. في الحقيقة، أنا لا أكترث لأمري، لأنّني قد عشت حروبًا كثيرة، حتّى أصبح ما يحصل اليوم لا يرفّ لي جفنًا، لكنّني أخشى تأثير هذه الصدمات على أطفالي الصّغار. لقد كانت السماء ترعد فجر أمس، وقد استقيظ كلّ من أطفالي الثلاثة ظنًّا منهم أنّ القصف يطال بلدتنا مجدّدًا. وقد ازداد خوفهم بعد أن استهدف العدو عددًا كبيرًا من المدنيّين في بلدات حدوديّة مختلفة، وفتيات بعمر الورد، فأصبحوا يسألونني كلّما زأرت السماء، قصفًا كان أم رعدًا، ما إذا كان قد اختارهم الله للرحيل، لقد أصبحوا يخافون الشتاء الذي لطالما كانوا ينتظرونه.. فما ذنب طفولتهم البريئة؟”.

وعن التروما نفسها، ولو بتفاصيل مختلفة، تؤكّد أحلام، وهي ناجية من تفجير مرفأ بيروت الذي ترك بصمة صدمات حيّة داخلنا، أنّ “أصوات الرعد تذكّرني كلّ عام بصوت ذلك اليوم المشؤوم. لقد نجوت من الموت حينها، ولكنّني أعيش اللّحظة نفسها مع كلّ شتوة! ومع اقتراب الحرب خطوة إضافيّة منّا يومًا بعد يوم، ازداد خوفي هذا، وصرت أجد نفسي كلّ ليلة أستيقظ على صوت السماء في الخارج وأتساءل: هل بدأت الحرب؟”.

يتشارك اللّبنانيّون من مختلف المناطق الخوف نفسه، فمع ارتفاع وتيرة الصراع في الجنوب وازدياد الخروقات المستمرّة لقواعد الاشتباك، بالإضافة إلى تهديدات العدو المستمرّة بـ”إعادة لبنان إلى العصر الحجري” في حال اندلاع حرب شاملة، أصبح من الطبيعي أن يعيش المواطنون في كلّ مكان، حالة من الذعر والقلق.

من المحزن فعلًا أن نرى ما آلت إليه حالنا في لبنان، هذا البلد الذي يكاد لا يلتقط أنفاسه حتّى، قبل أن تلحق به مصيبة جديدة تُلقي حملها الثقيل على أبنائه. وكأنّ مستنقع فساد السّلطة، والنكبات المتتالية التي تحلّ علينا غير كافية، لنزيد على لائحة مصائبنا رعدًا لا يخافه معظم من يحظى بحياة كريمة في الخارج. هل كُتب لنا الخوف دائمًا وأبدًا؟!

في لبنان فقط… تَرعُد السماء في الخارج فتَرعُد فرائصنا معها في الداخل ونستيقظ على وطأة الصّدمة: أنموت الآن أم تُكتب لنا الحياة؟