أبنية من الحقبة العثمانية: ذاكرة طرابلس المهددة بالانهيار

يناير 18, 2024

A-

A+

طرابلس، والقلق الدائم على مصير أبنائها ومواطنيها، هذه المرّة لن نتحدّث عن البشر في هذه المدينة، بل عن الحجر فيها، الذي لا يقلّ أهميّةً عن أيّ حجرٍ في أيّ منطقةٍ لبنانيّةٍ أخرى.

من منا نسيَ ما حدث في 10 كانون الأوّل 2019 عندما انهار سقف مبنى الفوّال في الميناء وتسبب بمقتل عبد الرحمن كاخية وشقيقته راما كاخية؟

من منا لم يسمع بما حصل في مدرسة الأميركان بتاريخ 2 تشرين الثّاني 2022 عندما سقط سقف المدرسة على الطالبة ماغي محمود وسرق منها حياتها؟

ومن منا لم يرى المبنى السّكني المؤلف من أربعة طوابق عندما انهار على من فيه في منطقة ضهر المغر بتاريخ 26 حزيران 2023؟

ومن منّا لم يزر في حياته التحفة المعماريّة المميّزة، معرض رشيد كرامي الدولي السّاحر بمحتوياته المعمارية وهو العلامة البارزة في مسيرة المهندس المعماري البرازيلي أوسكار نيمار الذي اعتبره أكبر منشأة حداثيّة في لبنان، هذا المعرض الذي سرقته الحرب الأهليّة قبل مباشرة الأنشطة فيه، عاد الزمن وسرقه من أهله بالصدأ والخراب والتهديد بالانهيار والدمار عند أوّل عاصفةٍ قويّة أو هزّةٍ أرضيّة، لتآكل الاسمنت فيه والحديد المهترئ الذي ما عاد ليحمل المنشآت بسبب الاهمال الكبير وغياب الترميم الدوري.

ليس هذا وحسب فالخطر أكبر وأعظم من كلّ الوقائع، فبحسب رئيس بلدية طرابلس المهندس أحمد قمر الدين، عدد المباني المهددة بحسب البلدية تجاوزت الـ700 مبنى سكنيّ وفي كلّ مبنى عدّة وحدات والرّقم يستمرّ ويرتفع.

وبحسب المسح الأخير الذي أجرته بلدية طرابلس بالتعاون مع المديرية العامة للآثار وقبل زلزال تركيّا الأخير الذي أثّر على لبنان، فقد بلغت المباني المتصدعة 236 مبناً سكنيّاً، 139 منهم مبناً باطوني و97 المتبقى مبنى تراثيّ، هذه الأرقام كانت في أيام الرّخاء، عندما كانت الدنيا على ما هي عليها، وقبل حصول الهزّات المتتالية التي ضاعفت الأرقام وتسببت بتصدّع حتّى المباني الجديدة.

ولعلّ أكثر المناطق الطرابلسيّة المهددة والمتضررة هي: الحدادين، المهاترة، النوري، الزّاهرية، الحديد، ضهر المغر، وباب التّبانة… ولعلّ الخوف في هذه الأزقّة لم يزل متوغلاً في أنفس المواطنين الهاربين من الموت، والمهددين بالموت دائماً.

ولعلّ السبب الرئيسيّ في إهمال هذه المباني القديمة هو اعتبارها تراثيّة، والبلديّة المعنيّة بكلّ الأحوال لا تسمح بأيّ نشاط يقع على هذه المباني سواءً كان تعديل، تغيير، أو حتّى ترميم، من دون استحصال المالك على كتابٍ رسميٍّ واضح من المديرية العامة للآثار في وزارة الثّقافة.

وأسباب أخرى تحول دون ترميم المباني مثلاً رغبة بعض المالكين بانهيار هذه المباني تلقائياً لإعادة البناء على الأرض، لكون الهدم يحتاج لترخيص.

وفي حال سألنا عن السبب الذي يبقي الأهالي في هذه المباني، فنجد أنّ أغلبيّة المستأجرين ما زالوا يدفعون الإيجارات على العقود التي مضوها قديماً، ولكون جميع الإيجارات الجديدة هي بالدولار الأميركي، ما لا يتناسب وقدرتهم على الدفع، فيبقون في منازلهم الرّخيصة والمهددة بالانهيار.

وهنا بات الأمر واضحاً في حال سألنا لماذا لا يقوم المالك بالترميم؟ فانهيار المبنى وفسخ العقد مع المستأجر الذي يدفع القروش القليلة أهون عليه من بقاء المبنى واستمرار عمليّة التأجير الخاسرة هذه.

وبالرغم من الجهود الواسعة للهيئة العليا للإغاثة والوزارات المعنيّة والأمم المتحدة، ما زال الأمر على ما هو عليه ولم يتغيّر الواقع المهترئ والمهدد لحياة الناس أبداً.

ولعلّ المسؤوليّة باتت واضحة، ليست على البلدية المفتقرة للحدّ الأدنى للقدرة الماليّة، ولا على منظمات المجتمع المدني التي تعتبر سنداً لا جهةً تتحمّل المسؤوليّة، بل المسؤوليّة تقع كلّها إذا صحّ التّعبير على الدولة، خاصّة وأنّ هناك مرسوم صادر عن مجلس الوزراء في تاريخ 24/1/2022، حيث تمّ تأليف لجنة برئاسة وزير الداخلية، وعضوية وزراء المالية، العدل، الأشغال العامة والنقل، ووزير الثقافة، وتمّ تعميمه على كافة الإدارات والبلديات لدراسة أوضاع الأبنية المتداعية والمتصدعة، ورَفع الاقتراحات العملية لمعالجة المشكلة.

فأين المتابعة؟ وماذا تنتظر حكومتنا العتيدة لأخذ إجراءات جدية في سبيل حماية أبناء هذه المناطق؟ خاصّة وأنّ العلماء باتوا يحذرون من زلازل دوريّة في الشّرق الأوسط.