العالم في مهب المزاج الترمبي

أبريل 8, 2025

A-

A+

الولاية الأولى: نهج خارجي تصادمي على إيقاع العقوبات والابتزاز

منذ ولايته الأولى، تبنى الرئيس الأميركي دونالد ترمب نهجاً خارجياً قائماً على مبدأ “أميركا أولاً“، متسماً بالمواجهة الأحادية والتهديد الصريح في معالجته للملفات السياسية العالمية. فطغى على سياسة ترمب الخارجية طابع تصادمي، تمثل في الانسحاب من اتفاقات دولية وفرض رسوم عقابية حتى على دول حليفة، مقدّماً المصالح الأميركية الضيّقة على الالتزامات متعددة الأطراف، من دون تمييز بين خصوم أو شركاء في سبيل تحقيق أهدافه.

ففي تعاطيه مع الملف الإيراني، اختار ترمب العام 2018، الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي المبرم في العام 2015، وأعاد فرض عقوبات صارمة على طهران​، في حملة اتّخذت عنوان “الضغوط القصوى”. هذا الانسحاب أحادي الجانب، الذي برره ترمب باعتبار الاتفاق غير كافٍ لكبح طموح إيران النووي ونفوذها الإقليمي، شكّل تهديداً مبطناً لطهران أعاد عزلها دولياً ورهن انفتاحها الدولي بقبولها بشروط واشنطن​.

على الصعيد التجاري، أشعل ترمب حرباً تجارية مع الصين بفرض رسوم جمركية بمئات المليارات من الدولارات على الواردات الصينية​، وردّت بكين بالمثل، مما زاد التوتر بين أكبر اقتصادين في العالم. ولم يتردد ترمب في استخدام الرسوم كورقة ضغط حتى ضد أقرب الشركاء، إذ سبق وهدد بإلغاء اتفاق NAFTA للتجارة الحرة ما لم تذعن كندا والمكسيك لشروطه، الأمر الذي انتهى بتوقيع اتفاق USMCA البديل في العام 2018 بعد مفاوضات شاقة​.

ومع جارته الجنوبية، استخدم الورقة الجمركيةلدفع المكسيك لتعزيز ضبط حدودها الجنوبية ووقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين​. وبداخل المؤسسة التي حرص نظراؤه السابقون على ضمان استقرارها، ضغط ترمب بقوة على الحلفاء الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي على حلف شمال الأطلسي، ولوّح ضمنياً بتقليص التزام واشنطن بالدفاع المشترك إذا لم يفوا بنسبة 2% من ناتجهم المحلي للإنفاق العسكري،  وأفاد أيضاً في لقاءات خاصة معهم بأن “الحلف قد مات” مهدداً بانسحاب الولايات المتحدة منه.

الولاية الثانية والعودة إلى سياسة حافة الهاوية: إيران بين القصف والعقوبات

مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض في 2025، تصاعدت نبرة التهديد في سياسته الخارجية على نحو غير مسبوق، سواء عبر الوعيد العسكري المباشر أو الضغط الاقتصادي الحاد تجاه خصوم الولايات المتحدة وحتى بعض حلفائها. كثّف ترمب لهجته العدائية تجاه طهران ساعياً لفرض اتفاق نووي جديد بشروطه. وهدّد بشكل صريح بقصف إيران إن لم ترضَ بالتفاوض وفق مطالبه. وجاء تهديده هذه المرة صريحاً مباشراً: “إذا لم يعقدوا اتفاقاً، فسيكون هناك قصف”​. وأعقب هذا التصريح التصعيدي بإعادة تفعيل حملة “الضغوط القصوى”، في مسعى لتصفير صادرات النفط الإيرانية. ولم يتوقف الأمر عند التهديدات اللفظية، بل انتقل إلى رسائل ميدانية واضحة، إذ دفعت إدارة ترمب بقاذفات B-2 إلى قواعد عسكرية قريبة من إيران، في خطوة حملت دلالة جاهزية عسكرية مباشرة. وامتدت دائرة التصعيد لتشمل وكلاء طهران في المنطقة؛ فجدّد البيت الأبيض تحذيراته الصريحة لإيران من مغبة الاستمرار في دعم حلفائها الإقليميين، أعقبها شنّ ضربات جوية استهدفت مواقع تابعة لجماعة الحوثيين، عقب هجمات نسبت إليهم وأثّرت نسبياً على حركة الملاحة في البحر الأحمر. هكذا أراد ترمب، عبر التلويح بالقوة وإمكانية استخدامها، أن يبعث برسالة لا تحتمل التأويل: الخيار العسكري حاضر، سواء ضد إيران مباشرة أو ضد وكلائها في الإقليم.

مقاربة ترمب الجدلية لإنهاء الحرب في أوكرانيا… سلامٌ على مقاس بوتين

على مستوى الجبهة الروسية الأوكرانية، انتهج ترمب مقاربة مثيرة للجدل تجاه الطرفين. فبدلاً من استمرار الدعم الأميركي الثابت لكييف كما في الإدارة السابقة، مارس ترمب ضغوطاً لعقد صفقة سلام سريعة تعكس ميزان القوى القائم. وسعى ترمب فعلياً لترجمة وعوده الانتخابية بـ”إنهاء الحرب خلال 24 ساعة” عبر خطوات فعلية؛ فجمّد في مطلع 2025 المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا بشكل مؤقت​ لإجبار كييف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ما أثار مخاوف السلطات الأوكرانية وحلفائها الأوروبيين. وفي تحرك أحادي، انخرطت إدارته في محادثات مباشرة مع موسكو (استضافة بعض منها في السعودية) لصياغة اتفاق وقف إطلاق نار​، متجاهلةً مشاركة أوكرانيا في المراحل الأولى. واعتبرت كييف وحلفاؤها الأوروبيون هذه الخطوات عبارة عن تنازل خطير لبوتين​، حتى إن مستشار الأمن القومي الأسبق جون بولتون وصف نهج ترمب بأنه “استسلام فعلي لبوتين قبل بدء المفاوضات… وشروط تسوية وكأنها كتبت في الكرملين”.

وفي الوقت نفسه، لم يتوان في تهديد موسكو بإجراءات اقتصادية عقابية إذا ما استمرت في الحرب من دون اتفاق؛ إذ حذّر بأنه سيفرض رسوماً جمركية باهظة وعقوبات إضافية على صادرات روسيا، خاصة النفط، ما لم يستجب الرئيس فلاديمير بوتين لمساعي إنهاء الحرب​. لكنه في المقابل أبدى لهجة تصالحية بالقول إنه “لا يريد إيذاء روسيا” وإنه يحتفظ بعلاقة طيبة مع بوتين​، في إشارة إلى أن تلك التهديدات الاقتصادية هي ورقة ضغط لدفع الكرملين نحو التسوية.

من الناتو إلى غرينلاند: اختلال ميزان الصداقة بين واشنطن وأوروبا

وفي علاقته مع الحلفاء الأوروبيين الكلاسيكيين، لم يتراجع ترمب عن موقفه السابق المشكك بجدوى الناتو، بل أعاد طرح موضوع امتلاك جزيرة غرينلاند للواجهة مثيراً بإثره صدمة دبلوماسية في أوروبا. ففي أوائل 2025، جدّد ترمب رغبته القديمة في شراء غرينلاند من الدنمارك، بل لوّح هذه المرة بإمكانية “أخذ غرينلاند بالقوة” لأهميتها الاستراتيجية، ثم أعلن في خطاب له عن أن الولايات المتحدة ستسيطر على غرينلاند “بطريقة أو بأخرى”​. واعتُبر تصريحه على أنه سابقة خطيرة تتمثل في تهديد علني بضم أرض تابعة لدولة حليفة بالقوة، ما يقوّض مبدأ احترام سيادة الدول. وبذلك، اتسمت سياسة ترمب الأوروبية في ولايته الثانية بازدواجية غريبة: مزيج من الضغط على روسيا لوقف الحرب، إنما بشروط ينتقدها حلفاؤه، وفي الوقت نفسه الضغط على حلفاء واشنطن أنفسهم بوسائل غير مألوفة، من تعليق الدعم الأمني إلى التهديد بضم الأراضي.

سياسات ترمب الازدواجية تُربك العالم

أفرزت سياسة التهديدات المتكررة مناخاً عالمياً مشحوناً بالارتياب بين الحلفاء والخصوم على حد سواء. الحلفاء التقليديون لأميركا باتوا أقل ثقة بالتزامات واشنطن؛ فصرح قادة الاتحاد الأوروبي علناً بضرورة تعزيز الاستقلالية الإستراتيجية للقارة وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة أمنياً​. كما اضطر حلفاء آسيويون كاليابان وكوريا الجنوبية إلى المناورة بين واشنطن وبكين خوفاً من انجرارهم في صراع اقتصادي أو عسكري أوسع​.

في المقابل، الخصوم كإيران وكوريا الشمالية ازدادوا تشدداً وحذراً، إذ رؤوا في تذبذب السياسة الأميركية فرصة للمناورة لكنهم في الوقت نفسه ارتابوا من نوايا واشنطن العدائية. فأصبح من الصعب الإجابة على سؤال: ماذا تريد واشنطن؟ إن انعدام الثقة هذا يقوّض إمكانية تبني نهج مشترك في معالجة التهديدات الراهنة والمستقبلية، ويجعل كل دولة في حالة وجس من الأخرى، ما يعيد للأذهان أجواء سباق التسلح وسوء التقديرات التي سادت عشية الحرب العالمية الثانية.

حرب بلا قنابل… العالم على شفا الانفجار؟

ربما أخطر نتيجة لسياسة حافة الهاوية التي يتبعها ترمب هي زيادة احتمال اندلاع صراع دولي واسع النطاق نتيجة خطأ في الحسابات أو تصعيد غير مقصود. فوجود عدة بؤر توتر مشتعلة في آن واحد – في الخليج مع إيران، وفي أوروبا الشرقية مع روسيا، وفي شرق آسيا مع الصين – تحت إدارة أميركية تميل أكثر للمجابهة وأقل للصبر الدبلوماسي، يعني ارتفاع خطر تشابك هذه الأزمات في حرب أوسع. وتحطيم جدران المحرمات الدولية بشأن استخدام القوة لضم الأراضي قد يعيد شبح سيناريوهات ما قبل الحرب العالمية الثانية. وما يزيد الطين بلة، استحضار ترمب نفسه شبح الحرب العالمية، في نسختها الثالثة، في خطابه السياسي. فخلال اجتماعه بنظيره الأوكراني في العام 2025، وجه توبيخات، في سابقة عالمية تبث على المباشر بداخل المنظومة الغربية، مدعياً أن رفضه لبعض التنازلات هو “مقامرة بحياة الملايين… ومقامرة بحرب عالمية ثالثة”​. وتعكس هذه التصريحات إلى أي مدى أصبح احتمال النزاع الشامل وارداً في ذهن صانع القرار الأميركي نفسه. فسلسلة الأزمات التي أججها ترمب قد تتفاعل مع بعضها بشكل خطير، إذ إن أي مواجهة عسكرية مباشرة بين واشنطن وطهران أو وقوع صدام غير محسوب بين قوات أميركية وروسية في مسرح عمليات متأجج قد يشعل تداعياً سيصعب احتواؤه. ومع تآكل أدوات الدبلوماسية المتعددة وغياب الثقة المتبادل بين مكوّنات النظام العالمي، يخشى المختص، كما المواطن العادي، من أن العالم بات أقرب إلى حافة الانفجار الجيوسياسي مما كان عليه منذ عقود.