بين القصف والحياة..حكاية بيروت التي تتحدى
أغسطس 26, 2024
A-
A+
ينشر هذا المقال بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكرة والمتمحورة حول المواطنين في الإعلام اللبناني.
في ليلة من ليالي بيروت، وبينما كانت سماء الضاحية الجنوبية تضج بأصوات القصف والموت ، كانت أصداء أخرى تتردد على بعد أميال قليلة في نفس المدينة، أصداء لحفلة صاخبة، حيث ارتفعت الموسيقى وتعالت أصوات الضحك والفرح. هذه المفارقة الصارخة تعكس واقعاً معقداً يعيشه اللبنانيون حيث أن هذا التناقض ليس بالجديد على بيروت و لبنان ككل ، ففي حين يواجه الجنوب حرباً مباشرة ، وغارات من هنا وهناك على البقاع و أخيراً على الضاحية الجنوبية لبيروت ، كانت دور المسرح و السينما و المطاعم و الحفلات و مناطق الاستجمام الصيفي مستمرة في كل لبنان ، هذا التعايش مع التناقضات هو ما يمنح لبنان قوته وتميزه ، حيث لا يمكن فهم أوجه بيروت المتناقضة إلا من خلال إدراك مدى تعقيد واقعها الاجتماعي والسياسي ، هذه بيروت التي ترقص على حافة الهاوية، تحتفل بحياتها بينما تتصدى لأحلك لحظاتها .
في دول أخرى، قد تؤدي انفجارات بسيطة إلى إعلان حالة الطوارئ على مستوى البلاد ومنع التجمعات حفاظًا على الأرواح. لكن في لبنان، البلد الصغير ، حيث يشهد حالة من الحرب المستمرة ، لم تُعلن حالة الطوارئ لغاية اليوم ولم تُتخذ تدابير احترازية لحماية المواطنين. بل استمرت الحفلات والمنتجعات السياحية في العمل كالمعتاد. يطرح هذا التساؤل حول أسباب هذا الوضع: هل هو نتيجة غياب القيادة الموحدة، أم بسبب الخلافات السياسية العميقة التي تعصف بالبلاد؟ أم أن ثقافة لبنان وتاريخه، حيث اعتاد الناس التعايش مع التناقضات بين الفرح والحرب منذ أيام الحرب الأهلية، تلعب دورًا في هذه الظاهرة … ؟؟
تأقلم اللبنانين مع المخاطر.
في حديث خاص لمنصة “نقد ميديا“، أشار النائب إبراهيم منيمنة إلى الوضع الراهن في لبنان، مسلطًا الضوء على ما وصفه بتأقلم الشعب اللبناني مع مستويات خطيرة من التهديد. ولفت إلى أن اللبنانيين، على عكس شعوب البلدان الأخرى، باتوا يستمرون في حياتهم اليومية بشكل طبيعي رغم المخاطر المحيطة بهم، الأمر الذي يعكس مستوى متقدمًا من الاعتياد على الظروف الاستثنائية.
وأوضح منيمنة أن هذا التأقلم يأتي نتيجة طبيعية للأحداث المتتالية التي شهدها لبنان على مر السنوات. وأضاف أن الانقسام السياسي والاجتماعي الحاد داخل المجتمع اللبناني، خاصة فيما يتعلق بمسألة جبهة الإسناد، قد أدى إلى تعميق هذا الاعتياد. ولفت إلى أن هذا الانقسام حول كيفية اتخاذ القرارات الوطنية الكبرى قد أفرز خلافات جوهرية بين اللبنانيين، حيث تحول الاختلاف في الرأي إلى خلاف كبير بين أفراد المجتمع ، والذي بسببه رأينا صور متناقضة ليوميات اللبنانين .
وتطرق النائب إلى دور حزب الله في هذا السياق، مشيرًا إلى أن الحزب، باتخاذه قرار فتح جبهة إسناد دون التشاور مع الدولة أو أخذ رأي جزء كبير من اللبنانيين، قد جرّ البلاد إلى دائرة الخطر وزاد من حدة الانقسامات والتساؤلات. وأشار إلى أن العديد من اللبنانيين يتساءلون: من أعطى حزب الله الحق في اتخاذ قرارات تخص البلاد بأكملها ؟؟ ومن سمح له بفتح جبهة قد تجر لبنان إلى مواجهة لا تحمد عقباها ؟؟
ورأى منيمنة أن هذه الحالة من التجاهل لدى شريحة من المجتمع اللبناني تجاه الاعتداءات الإسرائيلية، هي نتيجة مباشرة لهذا الوضع، حيث يعتبرون أنفسهم غير معنيين بما يجري، نظرًا لأنهم لم يكونوا جزءًا من عملية اتخاذ القرار.
وأكد النائب على ضرورة التعامل بحذر مع هذا الانقسام، مشددًا على أن الخلاف السياسي في لبنان ليس بجديد، بل يعود لعقود طويلة، وظهور هذه الانقسامات اليوم ما هو إلا تجلي لأزمات قديمة تتفاقم مع الوقت.
خطة الطوارئ اللبنانية.
أشار منيمنة إلى أن الدولة لا تتحمل مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بمنح التراخيص لإقامة الحفلات و التجمعات في ظل الظروف الراهنة ، حيث إن الأوضاع الحالية لم تصل إلى مستوى يستدعي فرض حالة الطوارئ التي قد تشل الاقتصاد الوطني. وأوضح أن الدولة تجد صعوبة في إقناع الناس بضرورة عدم التجمع، خاصة وأن البلاد تعيش تحت وطأة هذه الأحداث منذ أكتوبر الماضي، أي منذ نحو عشرة أشهر ، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي مازلت مستمرة وعليه يجب التعامل مع هذا الوضع بحذر .
وفيما يخص خطة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة اللبنانية، وصفها منيمنة بأنها جيدة كبداية، لكنها بحاجة إلى تمويل وتدريب لتحويلها من خطة نظرية إلى إجراءات فعلية. وأشار إلى أن بيروت ستكون المركز الرئيسي للنازحين في حال تفاقم الوضع، لكن هناك نقص كبير في التنسيق بين المناطق وفي التحضير لمختلف السيناريوهات المحتملة .
وختم النائب بالقول إن خطة الطوارئ الحالية تحتاج إلى تطوير شامل وإمكانات إضافية لتصبح فعّالة وقادرة على مواجهة التحديات المستقبلية.
في قراءة قانونية حول الوضع الراهن.
أجرت منصة نقد حواراً خاصاً مع المحامي زين علّوه، لاستعراض الأبعاد القانونية المتعلقة بإعلان حالة الطوارئ في لبنان، وتسليط الضوء على الظروف التي تتطلب من الدولة اتخاذ تدابير أمنية احترازية.
بدأ الأستاذ علّوه بتوضيح الأسس القانونية التي تستند إليها حالة الطوارئ في البلاد، مبيناً أن السند القانوني لهذه الحالة هو قانون الطوارئ اللبناني الصادر بموجب مرسوم اشتراعي رقم 52/67. وفقاً لهذا القانون، تملك الحكومة صلاحية إعلان حالة الطوارئ، ولكن بشرط موافقة ثلثي أعضائها وليس بالأغلبية العادية. وبمجرد إعلان حالة الطوارئ، يفرض القانون على مجلس النواب الانعقاد خلال ثمانية أيام كحد أقصى للمصادقة على هذا الإعلان، بغض النظر عن دور انعقاده المعتاد، سواء كان عاديًا أم استثنائيًا.
وعند الحديث عن الأمثلة الحديثة لتطبيق هذا القانون، أشار علّوه إلى إعلان الحكومة اللبنانية حالة الطوارئ في مدينة بيروت عقب انفجار 4 آب 2020. حيث اتخذت الحكومة هذا القرار دون عقد اجتماع رسمي، وقررت تمديد فترة الطوارئ حتى نهاية العام نفسه، ولكن في بيروت فقط، كونها المدينة الأكثر تضررًا من الانفجار. وأوضح علّوه أن هذا القرار أثار جدلاً واسعاً وانتقادات حادة، نظراً لتجاوز الإجراءات القانونية اللازمة، إذ لم يتم إصدار القرار وفق الأصول المعتادة التي تقتضي مصادقة الحكومة مجتمعة بأغلبية الثلثين، ومن ثم موافقة مجلس النواب، وهو ما لم يحدث في تلك الحالة بسبب حل الحكومة آنذاك .
حالة طوارئ أو تعبئة عامة؟
يقارن الاستاذ علّوه بين حالة الطوارئ وحالة التعبئة العامة في لبنان، موضحاً أن الفرق الجوهري بينهما يكمن في توزيع السلطات التنفيذية. ففي حالة التعبئة العامة، تنتقل مسؤولية تنفيذ القرارات من الحكومة إلى الأجهزة الأمنية المختصة، حيث يتولى كل جهاز تنفيذ مهامه وفقاً لاختصاصه. أما في حالة الطوارئ، فتتركز جميع السلطات التنفيذية في يد قيادة الجيش، وتُوضع جميع الأجهزة الأمنية تحت تصرفه.
بالإضافة إلى ذلك، تختلف حالة الطوارئ عن التعبئة العامة من حيث القيود المفروضة على الحريات العامة؛ ففي حالة الطوارئ، تُفرض رقابة مسبقة على وسائل الإعلام والصحافة، وتُتاح للسلطات فرض إجراءات استثنائية مثل المصادرة وتفتيش المنازل، مما يمنح الجيش حرية اتخاذ التدابير التي يراها مناسبة لحماية البلاد. في المقابل، تكون الرقابة في حالة التعبئة العامة أكثر انضباطًا، حيث تتركز على مصادر الطاقة والتمويل، وتتم المصادرة وفقًا للقانون والدستور ، و النقطة الاخيرة في المقارنة تتعلق بالفارق بين الاختصاص بالمحاكمة حيث يبقى القضاء العادي اي القضاء العدلي في الاحوال العادية واحوال التعبئة العامة ، اما في حالة الطوارئ فيتحول الاختصاص القضائي للقضاء العسكري على اختلاف دراجاته الاستثنائية والدائمة وغيرها .
وفيما يتعلق بالوضع الراهن في جنوب لبنان، وما تبعه من غارات على البقاع و استهداف في بيروت ، هل الظروف الحالية تستدعي إعلان حالة الطوارئ؟
أكد علّوه أن القرار بهذا الشأن يعتمد على عوامل متعددة، منها مدى انخراط الدولة اللبنانية في الحرب بشكل كامل، أو إذا كانت هناك فصائل معينة فقط تشارك في الصراع ضد إسرائيل. وبيّن أن إعلان حالة الطوارئ قد يكون صعباً في ظل الوضع الداخلي المتوتر، والانقسامات التي تعصف بالمجتمع اللبناني. فأي محاولة لفرض الرقابة على الحريات أو المصادرة قد تؤدي إلى تفاقم التوترات، خصوصاً في ظل عدم وجود توافق كامل بين مختلف الأطياف اللبنانية حول طبيعة المشاركة في الحرب ، واختتم علّوه حديثه بالقول إن العامل الاقتصادي للبلاد وحاجات الناس اليومية قد تكون من العوامل الأساسية التي تحدد مدى إمكانية إعلان حالة الطوارئ.
فالوضع الاقتصادي المتردي قد يجعل من الصعب على الحكومة فرض قيود إضافية أو اتخاذ تدابير قاسية، دون أن يؤدي ذلك إلى مزيد من التدهور في الأوضاع المعيشية للمواطنين ، وعليه من الناحية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية يكون من الصعب اليوم إقرار حالة الطوارئ ، أما قانونياً فلا مانع قانوني لفرض حالة طوارئ جزئية كون البلاد تتعرض لعدوان مباشر في أماكن محددة .
وجه واحد لبيروت التي تتحدى الحروب
ماريا رحال، الصحفية التي كانت حاضرة في بيروت عشية الغارة الإسرائيلية على حارة حريك، تحدثت لمنصة نقد ميديا عن رؤيتها للوضع الحالي في العاصمة اللبنانية. وأوضحت رحال أن بيروت كانت دائماً مدينة تعيش على حد السيف، ليس فقط من حيث التناقض بين الحرب والفرح، ولكن أيضاً من حيث التفاوت الاجتماعي الذي يعكس طبيعة المجتمع اللبناني. وأشارت إلى أن اللبنانيين قد اعتادوا على التأقلم مع الصعاب منذ بداية الأزمة اللبنانية في 2020، بل وقبل ذلك خلال الحرب الأهلية، حيث تظهر صور قديمة للناس وهم يستجمون على الشواطئ بينما المعارك تشتعل من حولهم.
تؤكد رحال أن بيروت ليست مدينة منقسمة كما قد يبدو للبعض، بل هي مدينة يتجلى فيها حب الحياة لدى جميع سكانها بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية. وتضرب مثالاً بسكان الجنوب الذين تفرض عليهم الحرب واقعاً مختلفاً، ولكنهم عندما يأتون الى مناطق مثل جبيل ك زائرين أو نازحين ، فأنهم يستمتعون بالمنتجعات والمطاعم بعيداً عن أصداء القصف. وترى رحال أن المشكلة الحقيقية تكمن في الجغرافيا، طالما أن الحرب ليست شاملة، مما يعزز الوجه الثقافي الواحد للبنان، وهو التمسك بالحياة رغم كل التحديات.
وعن الإجراءات الحكومية في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، تعبر رحال عن شكوكها في فعالية خطط الطوارئ الحالية، مشيرة إلى أنها معدة فقط لحالات الحرب الشاملة التي لم نصل إليها بعد، وأن الاعتماد عليها محدود. وتضيف أن اللبنانيين يعولون على الموسم السياحي كنافذة أمل في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وبالتالي فإن فرض حالة طوارئ على المدينة بسبب بعض الهجمات الإسرائيلية سيضر بالاقتصاد الوطني الذي لم يعد يحتمل أي انتكاسات إضافية.
تسرد رحال نماذج من التعايش اليومي مع الأزمات، مشيرة إلى أنه في الجنوب، عندما يهدأ القصف ولو ليوم واحد، يتدفق الناس إلى الشواطئ والأنهار للترفيه عن أنفسهم. وتروي كيف أن البعض يصر على نصب الخيام الشاطئية في صور، على الرغم من المخاطر التي تحيط بالمنطقة، سعياً للاستفادة من موسمها السياحي. وتختتم رحال بالقول إن ما يوحد اللبنانيين هو حب الحياة والقدرة على التأقلم مع الظروف الصعبة، مشيرة إلى أن الانقسامات بينهم هي سياسية بالأساس، حيث ينقسم السياسيون دائماً ، بينما الشعب يتشارك في ثقافة واحدة تتمثل في الرغبة في العيش والاستمرار رغم كل شيء.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي