انتصارٌ أوهن من بيت العنكبوت

ديسمبر 20, 2024

A-

A+

عاد من عاد من أهل الجنوب والضاحية الجنوبية إلى بيوتهم وبقي من بقي، والكثير ممن بقي أو ذهب يصرخ: انتصرنا!

هالني هذا التعبير عندما سمعته. انتصرنا؟ ما هذا الانتصار الذي يصاحبه ما يقارب 4000 شهيد، 16000 مصاب، و9 مليارات قيمة الدمار، وضعف في قوات حزب الله العسكرية وخسارة لهالته بين الدول. فكيف انتصرنا؟ وما هو الانتصار وما هو تعريفنا الشخصي له؟

أفهم الغبطة في العودة إلى البيوت والفرح لعدم قدرة الإسرائيلي على احتلال بلادنا كما فعل في آخر القرن العشرين، ولكن، هل الحفاظ على حقوقي في بقائي في أرضي أو العودة إلى بيتٍ ما كان يجب أن أُهجَر منه هو انتصار؟

وإن افترضنا أنّ الرجوع هذا هو فعلًا نصر، فمن يرجع من مات؟ من ينصر هؤلاء؟ من سيتوسط عودتهم مع ملك الموت؟

يقولون الجنوب صمد، ولهذا انتصرنا!

وما الذي صمد في الجنوب فعليًا؟ المباني؟ البيوت؟ الآثار؟ الأشجار؟ الكروم؟ الذكريات؟

يقولون ويمدحون: أيا ضاحية، أيا أبية!

أو ماذا أبت الضاحية؟ أولم تسمح باغتصاب مبانيها كلّها حتى لم يبق منها إلا الرماد والزجاج المبعثر على الأرض؟ ألم يكن يجب أن تأبى أن يُدفن أبناؤها أحياء تحت الركام!؟

فهل انتصرنا فعلًا؟ وما مقياسنا الانتصاري في ظلّ عدم تمكن حرب الإسناد من إسناد عمود في غزة أو في لبنان، لا بلّ هزت كلّ أعمدة الثقة بقوة المقاومة!

إنني أجد في فكرة انتصارنا ضعفًا ينطلق من عقلية “الشحّ” التي تجتاحنا كلبنانيين، فنفرح بالقليل ظانين أنه الكثير. هي عقلية ترتدّ على كلّ حياتنا، كفرحنا ببضع ساعات من الكهرباء، بدل مقتنا لهذا القليل وطمعنا بالأكثر.

كفرحنا بزينةٍ في موسم الأعياد تغطّي الأشرطة الكهربائيّة المقيتة، في شارعنا.

كفرحنا بموت الشهيد لكونه شهيداً، وحزننا عليه لبقية حياتنا. كفرحنا بعودتنا إلى منازلنا المدمرة، نحن الذين ما كان يجب أن نُهَجّر ولا هي بدورها كان يجب أن تُدمر. كفرحنا بحفظ الحزب لكرامتنا بعد أن أجبرنا على ترك بيوتنا في الليل بثيابنا التي علينا بلا وجهة ولا مأوى نهرع إليه، فنرجو من كلّ من نعرف، أن يساعدنا بينما الحزب مشغول في تلبية الطموحات الإيرانية. فأي كرامة تلك التي حافظ عليها؟

أكانت تلك المرأة الهاربة وبين يديها طفلها ذي الأربعة أيام، بينما ما زالت تنزف من الولادة، تشعر بحفظ كرامتها؟ ماذا عن ذلك الطفل الذي اضطر إلى ترك كلّ ألعابه في الضيعة أو ذلك الرجل الذي ترك دجاجاته المئتين للموت، تلك التي عاش سنيناً يستفيق لإطعامها؟ هل شعرا أن كرامتهما محفوظة؟ أشعر العجوز الثمانينيّ مريض القلب اللاجئ بلا أدويته إلى مدرسة مع أناس غرباء لا يحترم أحدهم خصوصية الآخر لضيق المكان والضرورة، بالكرامة؟ أين حفظت الكرامة حين اضطر إلى طلب الطعام والمال من جمعيات تظن نفسها أفضل منه فقط لأن تمويلها يأتي من مؤسسات أوروبية؟ فعن أي كرامة نتكلم وعن أي انتصار؟

أو لو كان التعبير عن الانتصار هذا ناتجًا عن تحليل سياسي للمصالح الدولية وتأثيرها على المنطقة، أو كان مبنيًا على تحليل لاستراتيجيات العدوّ والبلاد المجاورة، مع أخذ الأمثلة التاريخية المشابهة بعين الاعتبار، ولفكرية وأيدولوجية المؤسسات والبلاد المعنية بالحرب، لكان فعلًا انتصارًا. ولكن فطرة الانتصار المحكي به هذا مبنيّة على التبعية العمياء للأحزاب وتنبثق من عقدة ضحية المعنّف التي يتمتع بها اللبنانيّ إجمالًا. فللتوضيح، الضحية المعنفة تُؤله معنفها عندما يقوم بعمل صغير جيد بالرغم من كلّ العنف والذلّ الذي يخضعها له.

والآن وبعد سقوط نظام الأسد البائد الظالم، نجد أن الحزب فعليًا، وإن “انتصر” في المعركة تلك، فقد خسر الحرب. فمع الدمار الساحق الذي لحق بمنظومته العسكرية، وانقطاع طريقه البريّ غير الشرعيّ لتهريب الأسلحة والأموال من إيران، فقد قوته وقدرة إعادة بناء نفسه. إن الحزب خسر اليوم الحرب ماديًا، عسكريًا، استراتيجيًا وسياسيًا وربما جماهيريًا.

ولعلّنا نعذر كلّ متعلق بالحزب هذا، إن رجعنا إلى سيكولوجية التعلق بالمجموعات. فالإنسان يؤمن ويتعلق بمن وما يشبهه، فيشعر بالأمان بينهم. ولكننا لا نعذر التأليه الحزبي. فالحزبيّون الله-ويون يؤمنون بالحزب الأصفر ربما أكثر من إيمانهم بالإسلام كمؤسسة ستنقذهم في غياب الله عن قضاياهم الأرضية. فأصبح حزب الله دينًا يتبعه الفرد لا حزبًا سياسيًا أو قوة مقاومة، ينفذ ما يتماشى مع مطامعه الداخلية والخارجية باسم الله. أما من يشكك بهذا الدين، فهو إما كافر أو مختلّ عقليّ بحاجة للعلاج أو التأديب. واليوم، ومع الفضح الهائل لفظائع النظام السوريّ، تبرز الأسئلة التي لطالما طرحت: أهو حزب إلهي أخلاقيّ هذا الذي سمح لنفسه التعاون ومساعدة أحد أظلم الأنظمة الدكتاتورية في عالمنا المعاصر، فغضّ النظر عن المجازر التي خضع لها الشعب السوريّ لا بل ساعد بها أيضًا بحجة المقاومة وتحرير القدس؟ أو هل سيسمح الله للقدس بالتحرر على جثث الأبرياء المعذبين المهانين المظلومين؟ أو لماذا ما زال الفرد يريد التعلق بمجموعة، والتشبه بمجموعة تناهض لا بل تشارك بالمعاملات الوحشية واللا إنسانية؟

أخيرًا، يجدر القول أنّه ليس مطلوبًا من المجتمع الشيعي التخلي عن دينه أو حزبه، ولكن المطلوب منه التخلي عن ولائه الأعمى للمؤسسة هذه وإدراك حقيقة أنها تتلاعب بعواطفه انطلاقًا وتزعمًا بالدين.

أما المطلوب هذا، فهو يطلب من كلّ لبناني أيضًا وليس فقط الحزبيّ الله-ويّ.