صراخ الأطفال وسط الدمار وتقاعس الدولة

سبتمبر 10, 2024

A-

A+

في قلب الفوضى التي تعصف بالجنوب اللّبناني، حيث تتصادم أصوات القذائف مع صرخات الأطفال، يبرز الألم العميق كواقع لا يمكن تجاهله. هناك، حيث تُدمّر النزاعات البنية التحتية وتُشتّت العائلات، يُصاب أطفالنا بجروح لا تقتصر على الجسد، بل تمتد إلى أعماق نفوسهم. هم الذين يُجبرون على العيش في ظروف غير إنسانيّة، ويعانون من تداعيات نفسية كارثيّة تفوق الوصف.

في هذا الإطار، يبرز قانون حماية الأطفال من العنف كأداة حيوية تهدف إلى ضمان حقوق الأطفال وحمايتهم من كل أشكال الإساءة. وعلى الرغم من أن هذا القانون صُمّم ليكون حصناً يحمي الأطفال من كافة أنواع العنف، إلّا أننا نُواجه تحدّيات جمّة في تطبيقه، لا سيّما في الجنوب اللّبناني، حيث يعاني المدنيّون من قصف إسرائيلي عنيف بعيد كلّ البعد عن الإنسانية ويوجّه ضرباته لبيوت الأبرياء، فيصبح تنفيذ هذا القانون أكثر صعوبة، ويحتاج إلى دعم وتعزيز فعّال لضمان تحقيق أهدافه.

وتتوزع المسؤولية بين الحكومة اللّبنانية التي يُفترض بها تطبيق القانون، والمنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية التي تقدّم الدعم، لكن التقصير يبدو واضحاً في حماية الأطفال خلال هذا النوع من النزاعات، إذ  تتطلّب هذه المسؤولية تنسيقًا فعّالاً وتعاوناً بين جميع الأطراف المعنيّة لضمان تقديم الحماية الفعّالة في أوقات الأزمات.

وفي ظل هذه الظروف، تبقى صرخات الأطفال وجراحهم دعوة ملحة لتوفير الحماية والرعاية، وتعكس الحاجة المستمرّة لضمان أمانهم واستقرارهم مهما كانت التحديات.

 بدورها، كشفت المحامية والحقوقية ديالا شحادة عن غياب قانون محدّد لحماية الأطفال في لبنان، مشيرة إلى أن هناك بعض النصوص في قانون العقوبات اللبناني، ضمن الفصل الخاص بالجرائم الواقعة على الأسرة، التي تجرم بعض الأفعال ضد الأطفال مثل تسييبهم وعدم توفير الرعاية اللّازمة لهم، مضيفة أن لبنان قد وقع على الإعلان العالمي لحقوق الطفل، لكنه تحفظ على بعض بنوده مثل حق اختيار الدين وحق النسب للأبوين. كما أشارت إلى وجود اتفاقيات جنيف الأربعة التي تحمي المدنيين بشكل عام، بما في ذلك النساء والأطفال، منذ الأربعينيات.

وعبّرت شحادة عن استياءها من أداء الدولة اللّبنانية في الحرب مع العدو الإسرائيلي في الجنوب، مشددة على عدم توفير أي حماية عسكرية أو سياسية. ولفتت إلى تراجع لبنان عن قرار القبول باختصاص المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المجرمين الإسرائيليين عن أفعالهم ضد المدنيين اللّبنانيين، معتبرة أن هذا التراجع يعكس تقاعس الدولة عن تقديم حماية فعّالة لمواطنيها. وأكدت أن التعويض الذي تم تحديده لضحايا الاعتداءات الإسرائيلية ليس سوى تعويض زهيد لا يرقى إلى مستوى الحماية الحقيقية، وأوضحت أن هذا القرار لم يكن سوى تعويض غير كافٍ للضحايا الذين فقدوا أرواحهم جرّاء الإجرام الإسرائيلي.

وأضافت شحادة أن الدولة اللبنانية لم تؤمّن الحماية العسكرية الاستباقية، ولا الحماية المباشرة والاستجابة الفعالة للاعتداءات. وأشارت إلى تقاعس الدولة في تأمين الملاجئ الآمنة للمدنيين منذ بدء الحرب، وضرورة فتح المدارس وتوفير الحاجات الأساسية لضمان كرامة النازحين من الجنوب. وانتقدت شحادة قرار الدولة بالتراجع عن قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، واعتبرت ذلك “خيانة” تضر باللّبنانيين وتمنعهم من الحصول على التعويض المناسب.

كما شددت شحادة على أن التشريعات القانونية المتعلّقة بحماية الأطفال والمدنيين في لبنان متأخرة جداً مقارنة بالدول الأخرى، ودعت إلى تحديث المواد القانونية في قانون العقوبات لمواكبة الأشكال الجديدة من العنف والاعتداءات. واختتمت بانتقاد التحفظات التي وضعها لبنان على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مشيرة إلى أن هذه التحفظات تعكس تمسك لبنان بأنماط ثقافية وسياسية قديمة، حيث تبقى الأولوية لحقوق النظام التقليدي على حساب حقوق الأطفال.

من جهتها، أشارت مسؤولة العنف الأسري في منظمة كفى المحامية ليلى عواضة، إلى أن قانون حماية الأحداث هو المسؤول عن حماية الأطفال من العنف. ومع ذلك، لفتت إلى وجود ثغرات في هذا القانون، تتمثل في عدم توفر أماكن آمنة للأطفال الذين يتعرضون لأي نوع من أنواع العنف أو الذين يعيشون في بيئة خطيرة.

وأضافت عواضة أنه في أوقات الحرب، تكون مسؤولية حماية الأطفال على عاتق الدولة، مشيرة إلى أن القوانين الدولية المتعلّقة بالنزاعات المسلّحة تفرض على الدول واجب تحييد المدنيين، وخاصة الأطفال والنساء، وتُلزمها بتوفير ملاجئ في أماكن آمنة. واعتبرت أنه في حرب الجنوب، هناك تقصير من قبل الدولة اللّبنانية، التي لم توفر أماكن آمنة للأطفال رغم علمها بأن بوجود عدوّ على الحدود وقد يتطوّر الوضع إلى حرب في أي لحظة.

في السياق نفسه، شددت المعالجة النفسية في منظمة كفى ساندرا رياشي، على أن الأضرار النفسية تمثل إحدى أعظم تداعيات النزاعات المسلحة، حيث تترك خلفها آثاراً مدمرة، خاصة على الأطفال، وتغير حياتهم بشكل جذري وعميق. وأوضحت رياشي أن الأطفال في زمن الحرب يواجهون فقداناً هائلاً لمفاتيح الاستقرار والأمان في حياتهم، حيث قد يفقدون منازلهم وعائلاتهم ومدارسهم، مما يفضي إلى تآكل شعورهم بالأمان والاستقرار ويزعزع ثقتهم بالعالم من حولهم.

نتيجة لهذه الاضطرابات، يعاني الأطفال من مجموعة واسعة من المشكلات النفسية والسلوكية التي تتضمن اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، والقلق الشديد، والتوتر الناتج عن فقدان أحبائهم والخوف من الموت. بالإضافة إلى ذلك، قد يتعرض الأطفال لنوبات هلع، وسلوكيات عدوانية، ونوبات غضب متكررة، والعزلة عن العالم الخارجي، وتأخر في النمو التعليمي، وصعوبات في التركيز، واضطرابات في الشهية والنوم، كما قد تنمو لديهم ميول وأفكار انتحارية، ونوبات غضب، وعنف تجاه الآخرين، وقد يواجهون مشاكل في الانحراف والإدمان.

تأثيرات جدار الصوت على أطفالنا

وفيما يخص الأذى النفسي الناتج عن ظاهرة “جدار الصوت”، أوضحت رياشي أن الأطفال عندما يسمعون هذا الصوت المزعج، يربطونه فوراً بالقصف، مما يعزز مشاعر الخوف والهلع وعدم الأمان. هذه الظاهرة تؤثر بشكل كبير على النمو العاطفي للأطفال، بحيث أن البيئة الحربية لا توفر لهم القدرة اللازمة لإدارة مشاعرهم بشكل صحيح. ويؤدي ذلك إلى نوبات بكاء شديد قد تحدث بدون سبب مباشر، وعدم القدرة على التحكم في الدوافع وتنظيم المشاعر.

علاوة على ذلك، فإن الأطفال الذين نشأوا في بيئة الحرب يعانون من نقص في الوعي الذاتي، فهم لا يتعلمون كيفية التعبير عن مشاعرهم واحتياجاتهم بشكل بسيط ومباشر، ممّا يؤدي إلى انطوائية وعدم القدرة على التعبير عن المشاعر بوضوح، بالإضافة إلى الافتقار في إقامة علاقات اجتماعية إيجابية ومتكاملة مع المحيطين بهم، بسبب الهلع المستمر الناتج عن الأصوات المرتبطة بالقصف.

كما يفتقر الأطفال إلى القدرة على اتخاذ القرارات السليمة التي توجه سلوكهم الشخصي وتفاعلاتهم الاجتماعية، مما يترتب عليه عدم إدراكهم للمعايير الأخلاقية والأعراف الاجتماعية. وهذا الافتقار قد يؤدي إلى الانحراف، والإدمان، والسرقة، والعنف تجاه الآخرين، مما يعكس حجم الضرر النفسي العميق الذي تسببه الحروب للأطفال.

في النهاية، يتضح جلياً أن معاناة هؤلاء الأطفال تتجاوز حدود الأضرار الجسدية لتلامس أعماق أرواحهم الهشة. إن الصور القاسية لأطفال فقدوا الأمل والأمان في ظل القصف والتدمير تذكّرنا بأن مسؤوليتنا تجاههم لا تتوقف عند حدود القانون أو السياسة، بل تمتد إلى أعماق الضمير الإنساني. كما يتعيّن علينا أن نكون صوتاً لهؤلاء الأبرياء الذين لا يملكون القدرة على التعبير عن معاناتهم، وحماية حقوقهم ورعايتهم ليست مسؤولية تقع على عاتق جهة واحدة، بل هي واجب جماعي يشمل الحكومات، والمنظمات الإنسانية، والمجتمع الدولي بأسره.

إدراكنا لحجم الأضرار النفسية التي يعاني منها الأطفال نتيجة النزاعات يعزّز الحاجة الملحّة لاتخاذ خطوات جادّة نحو معالجة هذه القضايا. فكل جرح نفسي هو دعوة ملحّة لنا للتأمل في قدرتنا على إحداث تغيير حقيقي. إن توفير الحماية والرعاية الكافية للأطفال ليس فقط مسألة حقوق إنسانية، بل هو استثمار في المستقبل، حيث يُبنى عالم أكثر استقراراً وعدالة للأجيال القادمة.