


أبوكاليبس الطقس ونبوءة الأب خنيصر
أبريل 23, 2025
A-
A+
في بلدٍ ينهار فيه كل شيء، من العملة إلى الأعصاب، يبقى شيء واحد ثابتاً لا يتغير: الأب إيلي خنيصر، واقف على منبر النشرة الجوية، يعلن عن اقتراب “العاصفة التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها منذ مئة عام!”.
لكننا شهدنا مثيلاً. في الواقع، نحن لم نرَ منها سوى نسمة باردة، وغيوم خجولة، وبعض حبات البَرَد التي تهاوت على رأس سيارة واحدة في جرد عاليه.
المشكلة مع الأب إيلي ليست في التوقعات، بل في طريقة تسويقها. فالرجل لا يقدّم نشرة جوية، بل نبوءة أبوكاليبسية. يستخدم كلمات مثل “جبهة سيبيرية”، “كتلة قاتلة”، “حزام مداري مرعب”، حتى يخال لك أن الأرض ستنقلب على وجهها، وأنك ستستفيق لتجد جبل صنين قد هاجر إلى أفريقيا.
في حضرته، لا يوجد شيء اسمه طقس معتدل. إما موجة حر “ساحقة تحرق اليابسة”، أو صقيع “يجمّد الهواء داخل الرئتين”. أما المطر، فلا ينزل بل “يهجم”. لا يهم كم مليمتراً سيتساقط، المهم أن الأب إيلي قال إن السماء ستفتح أبوابها كأنها شقّت بوق إسرافيل.
الرجل يعطيك طقساً مشحوناً بالدراما، وكأن لبنان لا يكفيه دراما اقتصادية، سياسية، أمنية… حتى السماء أصبحت جزءً من المؤامرة. والأجمل، أنه يضيف لمسته الروحانية في نهاية كل منشور: “الرب سيلطف بنا، لكن استعدوا لما هو أعظم!”.
وهكذا، نعيش دائماً في وضعية انتظار. نخبز خبزنا قبل العاصفة، نخبّئ الشموع، نملأ الغالونات، نؤجل الأعراس والجنائز… ثم تهب نسمة وتغفو العاصفة. ونعود إلى الحياة الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن.
لكننا لا نتعلّم. نعود له، ننتظر منه جديداً. نتابعه كمن يتابع مسلسلاً مشوّقاً، مع علمنا أن النهاية دائماً ستخيب التوقعات.
ربما المشكلة ليست في الأب إيلي. ربما المشكلة فينا: نحن الذين اعتدنا الحياة في ظل الكارثة. الذين نحتاج إلى شخص يصرخ “العاصفة آتية”، حتى نشعر بأن هناك نظاماً ما… حتى لو كان نظاماً مرعباً. نحن الذين نستبدل الطقس بالتهويل، لأننا لا نعرف كيف نتعامل مع الطقس الطبيعي. في لبنان، لا شيء طبيعي… حتى المطر.
ثمّة ما يبعث على الأسى في تلك المنشورات التي تبدأ بـ”ابتداءً من مساء الثلاثاء…”، وكأن نهاية العالم قرّرت أن تحترم رزنامة العمل، وتنتظر انتهاء الدوام الرسمي. وكأن الغضب المناخي يُضبط على توقيت موظفي الدولة.
وفي خضمّ هذا كلّه، لا أحد يحاسب. الأب إيلي لا يعتذر بعد “العاصفة التي لم تأتِ”، ولا أحد يسأله عن الفرق بين “عاصفة هوجاء” و”كتلة هوائية متعبة”. كما أن الإعلام لا يصحّح له، بل يهلّل له ويضيف عليه: “تساقط ثلوج على 600 متر!”… فنخرج لنصوّر القصبة الوحيدة التي علقت على سياج مدرسة، ونسميها “الثلوج المنتظرة”.
والأجمل؟ عندما يسأله أحدهم: “أبونا، كيف الطقس السبت الجايي؟” فيرد بلهجة نبوية: “هناك اضطراب جوي غامض قيد التشكّل، لكنه سيحسم أمره في الساعات المقبلة، فتابعوني.”
وكأننا أمام وحي إلهي يتنقّل بين السطور، أو عرض تشويقي لحلقة من مسلسل تركي.
أما المواطن، فهو يعيش في هذا التوتر المزمن: يشتري كيسين من الحطب، أربع بطانيات، وخبزاً يكفي للشتات، فقط ليكتشف أن العاصفة تحوّلت إلى شبورة صباحية وزخة خجولة.
وعلى الرغم من ذلك، لا أحد يلوم الأب إيلي. لأنه، في بلدٍ يُقاس فيه الأمل بترمومتر أعطال الكهرباء، وتُقرأ فيه النشرات الجوية كتعويض عن غياب الدولة، يصبح الأب إيلي أشبه بـ”دواء نفسي شعبي”… نأخذه على الرغم من آثاره الجانبية، فقط لأنه يُشعرنا بشيء من السيطرة.
ختاماً، لا بد من الاعتراف: الأب إيلي لا يقدّم الطقس… هو يقدّم الأمل بطريقته الخاصة. وإن كانت نشرة الطقس لديه لا تصيب، فهي على الأقل، تُرفّه. وفي بلدٍ كلبنان، هذا كثير.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي