الهروب من جهنّم عبر قوارب الموت

فبراير 26, 2024

A-

A+

عندما تتحدث عن قصص الهجرة غير الشرعية في لبنان، تكون مليئة بالحنين والألم والفراق والإشتياق. فقد يمثل قرار الرحيل عن الوطن آمالًا جديدة، ولكنه في الوقت نفسه يحمل في كفوفه خوفًا وترقبًا لمستقبل غير مؤكد. وفي محاولة يائسة للبحث عن حياة أفضل، تتحول قوارب الهجرة غير الشرعية إلى قوارب موت تطفو على سطح بحر اليأس.

تعتبر قوارب الموت في لبنان ليست فقط وسيلة للفرار، بل هي رحلة مليئة بالمخاطر يمزجها الركاب بين الأمل والخوف، وبين الشوق لحياة أفضل والترقب المرعب لمصيرهم. فبينما يغمرهم الشوق لرؤية الأرض الجديدة، يعصف بقلوبهم الخوف من المجهول والمخاطر التي تنتظرهم في عرض البحر، وعندما تعصف الأمواج بقواربهم الهشة، تتحول أحلامهم إلى كوابيس مروعة تطاردهم في أعماق البحر، حيث يحاصرون بين زوايا أمواج اليأس. ومن بين هؤلاء الركاب، هناك من تتحول أحلامهم إلى زبد صعبة التحقق، وهناك من يصبح مصيرهم مجهولًا حتى اليوم، ينتظرهم أهلهم وأحباؤهم بقلوبٍ مجروحة وأعينٍ تنتظرعودتهم بلهفة وقلق.

في ظل هذا الواقع المرير، يتعالى صوت الذكرى لتخليد أرواح الضحايا وتأكيد الالتزام بالبحث عن الحقيقة والعدالة. إنها دعوة للتفكير العميق والتحرك الفعّال للتصدي لهذه الكوارث الإنسانية وتوفير حلول شاملة تعالج جذور المشكلة وتحقق العدالة لأولئك الذين فقدوا في طريقهم نحو الحياة باحثين عن العدالة الحياتية.

بسبب هذه الكوارث البحرية المشؤومة حدد منذ عام 2014 وتحديداً السادس من شهر شباط، اليوم العالمي لإحياء ذكرى الأرواح التي فقدت والمختفين قسراً في البحار وعلى الحدود في جميع أنحاء العالم، وكان لا بد من أن يكون لبنان جزء من هذا اليوم العالمي، وتحديداً بعد بدء الأزمة الحياتية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يعيشها الشعب يومياً في ظل غياب وجود سياسة الدولة الحقيقية لمنع هذه الكارثة. ليس فقط منع حدوثها بل أيضاً معالجة الأسباب التي تؤدي الى حدوث الهجرة غير الشرعية.

ومن هنا كيف لنا أن ننسى تحديداً ضحايا مركب نيسان الشهير من العام 2022 الذي راح ضحيته حوالي خمس وأربعين شخصاً معظم لا يزال في عداد المفقودين لغاية تاريخه، مفتقرين للعدالة وللتحقيقات الشفافة، مثلهم مثل الكثير من ضحايا البحار اللذين ينتظرون حتى هذه اللحظة عدالة القانون بعد خسارتهم لعدالة الحياة.

ومع حدوث الهجرة غير الشرعية المستمرة عقد مركز سيدار للدراسات القانونية مؤتمراً صحفياً في مركز الصفدي الثقافي في طرابلس بتاريخ 6 شباط، لإحياء ذكرى الموتى والمفقودين والمختفين قسراً في البحار وعلى الحدود وبالأخص أرواح ضحايا مركب نيسان، كون أن مركز سيدار يتابع بشكل دقيق وقانوني معطيات هذه الحادثة وكيفية سيرها على الصعيد القانوني. وقد حضر المؤتمر فعاليات إجتماعية وسياسية وقانونية وعدداً من الناجين ومن أهالي الضحايا.

 خلال المؤتمر الصحفي تم الكشف عن العديد من الوقائع والتفاصيل بعد أن عرضت المحامية الأستاذة ديالا شحادة الوكيلة القانونية لعدداً من أهالي الضحايا والناجون مسار التحقيقات والصعوبات التي واجهتهم والمعوقات التي أدت الى توقف مسار التحقيق. بتاريخ 13 حزيران 2022 تقدم 11 محامي ومحامية من مختلف المناطق اللبنانية بشكل تطوعي عن 4 ناجين بمركب نيسان وتقدموا بهذا التاريخ بشكوى بجرائم القتل مع القصد الاحتمالي وجرائم القتل القصدي بحق فرقة البحرية العسكرية التي طاردت المركب على نحو ساعتين بشكل خطير وكان عليه حوالي 80 شخصاً معظمهم من الأطفال والنساء، وقد طالب الوكلاء القانونيون بالتحقيق بشكل مستقر وخارج إطار المؤسسة العسكرية من أجل ضمان الإستقلالية من جهة وضمان لحقوق الشاكين. بعد ثلاثة أيام من تقديم الشكوى تقدم الناجون أنفسهم بطلب لوزير العدل هنري خوري من أجل إحالت القضية الى المجلس العدلي للسبب نفسه ولكن امتنع وزير العدل من اللقاء معهم وحتى بعد تواصل المحامون مع مكتبه أفاد أن مجلس الوزراء هو في حالة تصريف أعمال ولا يسمح بالنظر بمثل هكذا طلب معتبرين أن ما حصل لا يشكل أي اهتمام للمصلحة العامة.

وبعد المطالبة أمام المراجع القضائية بعدم إحالت الملف للجهات العسكرية رفض النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات وقد أحال الملف الى النيابة العامة العسكرية من أجل التحقيق بعد أن تم إحالتها الى مديرية المخابرات في وزارة الدفاع من قبل مفوض الحكومة العسكرية القاضي فادي عقيقي وبعدها تم التحقيق فقط مع الناجون الأربعة بعد أن أفادت شهادة الناجون أن المركبة العسكرية التي طاردتهم هي من تسببت بإغراقهم بعد أن ضربتهم بشكل قوي، على عكس ما أفادت به القيادة البحرية العسكرية خلال المؤتمر الصحفي بتاريخ 26 آب 2022 أنه عثر على المركبة وليس عليها أي أثر اصطدام أو ضرب عمد مع الإشارة أن نتائج عمل فريق الغواصة الهندية التي أبحرت الى لبنان خصيصاً من أجل عملية الغوص والتنقيب أثار جدل وتساؤولات واسعة حول التناقضات تحديداً أن كابتن الغواصة سكوت واترز أشار أن هناك أثار لعملية الإصطدام وقد قام بتصويرها بشكل دقيق وبجودة عالية ولكن جميع الصور التي برزت كانت على عكس الحقيقة فهل هذه الشفافية التي طالبت بها أهالي الضحايا؟.

إن هذه المعوقات هي لا شيء مقابل المعوقات الأخرى التي واجهوها فحتى هذه اللحظة لم يتم إنتشال الجثث التي عثرت عليها بذريعة انها قد تتفتت مع العلم أن أهالي الضحايا يطالبون بجثث أقربائهم حتى لو تتفتت لكن لم يتم تلبية هذا المطاب أيضاً حتى أنه لم يتم إنتشال الغواصة التي هي تعتبر الدليل الجنائي الوحيد الذي يمكنه تحقيق هذه العدالة، وكيف لنا أن ننسى واقعة غياب أحد الناجون بعد أن تقدم أيضاً المحامون بشكوتين جديدتين، الاولى بجرائم القتل مع القصد الاحتمالي بحق أحد الضحايا والشكوى الثانية بجريمة الإخفاء القسري بعد أن فوقد أحد الناجون ولم يتم العثور عليه حتى هذه اللحظة بعد نقله الى المستشفى الحكومي في طرابلس.

كل هذه المطالب ومطالب اخرى كثيرة وعلى مدار سنة كاملة من التحقيقات العسكرية والمذكرات الخطية لم يتم الإستجابة لأي مطلب من قبل المجلس القضائي وكان الرد صادم في نهاية العام 2023 بعد أن اعتبرت النيابة العامة العسكرية أن هذه الشكوى ليست من صلاحيتها وردتها الى مرجعها وقد قامت النيابة العامة التمييزية بإحالت الشكوى الى النيابة العامة الاستئنافية في الشمال وبعد مراجعة المحامون تبين أن الشكاوى حفظت دون أي تعليل أو تبرير، فلا نعلم الى متى سوف يتم بالفعل تطبيق الشفافية والعدالة بحق أهالي الضحايا بعد أن خذلهم الجسم القضائي لعدة مرات.

عرض أيضاً المحامي الاستاذ محمد صبلوح لوقائع وحقائق صادمة لناحية ما حصل في تلك الحادثة وشدد على عدم السماح لأي شخص بالإفلات بعد ارتكابه لجريمة ما كوننا نتغنى دائماً بدولة المؤسسات والقانون سوف نسعى الى تحقيق هذا الشعار على أرض الواقع. فبعد حدوث هذه الحادثة تبين بشكل واضح غياب الشفافية في التحقيقات وحتى بعد مراسلة الحكومة من قبل المقرر المعني في جرائم القتل خارج اطر القانون في الإمم المتحدة ورد الجيش عليها وكان رده صادم بالفعل بأن المركب لم يتعرض لأي عمل من أعمال العنف أو القوة، مع العلم أن تقرير الغواصة جاء معارض لرد الجيش تحديداً بعد أن تم عرض فيديو بتقنيات عالية من إعداد ميغافون تمت من خلاله محاكاة وقائع ما حصل معتمدين على إفادة ورواية الناجين التي جاءت متطابقة لناحية ما حصل، وقد فجر المحامي محمد صبلوح مفاجأة من العيار الثقيل عندما أكد أن دورية زوارق الجيش بقيت حوالي 90 دقيقة بعد غرق المركب قبل أن تبدأ بإنقاذهم.

تنتهي المؤتمرات وتنتهي معه هذه الذكرى التي تم إحياؤها ليوم واحد في السنة فيما الناجون وأهالي الضحايا يعانون ما يعانون من ألم الفراق من جهة، وألم عدم كشف الحقيقة وتحقيق العدالة من جهة أخرى، فهل تبقى أحداث وملابسات تلك الليلة المشؤومة وغيرها من الليالي لغزاً يصعب كشفه؟ أم يبصر التحقيق النور وتتم محاسبة المسؤول عن هذه الفاجعة الأليمة؟