إنّ الشتاء صُنع فقط للأغنياء

إنّ الشتاء صُنع فقط للأغنياء

تأخّر الشتاء هذا العام في لبنان، وتأخّر المطر معه. وفي فترة الانتظار، سمعْت كثيراً، عبارات من نوع ” شو حلو الشتي! شو رومنسي الشتي!”

وحين تأمّلت في أصحاب هذه الجمل، تأكّدت من قناعةٍ قديمة في داخلي، وقلت لنفسي:

“الشتاء مصنوع فقط للأغنياء”.

لن تجد ميسوراً—(فكلمة غني تُخيفهم)—يعترف أو حتى يُدرك أنّه كذلك، فالغنى نسبي.

لكنني أنا أستخدم الشتاء كميزانٍ أصنّف عبره الناس طبقيّاً في رأسي.

من يفرح بالشتاء نوعان: إمّا مزارع، وإمّا ميسور.

وبما أنّ الزراعة في بيروت تنقرض أمام جحافل الباطون، طغت راحة البال والمال على “عشّاق الشتاء المرهفين”.

فكيف لمن يستيقظ على رذاذ الماء وهو يتساقط على عشب حديقته، ثم يحتسي قهوته أمام شبّاكٍ زجاجيّ بحجم بابٍ كبير مُطلٍّ على خضارٍ مبلول حديثاً، أن يكره الشتاء؟

يستحمّ بماءٍ ساخن بلا أي معاناة، ويخرج من بيته إلى مرآبه المسقوف، حيث قضت سيارته ليلتها بعيداً من الماء والرطوبة.

لا يتعرّض لأيّ نقطة مطر، لا هو ولا سيارته الرباعية الدفع، العالية، العصية على الغرق في الشوارع التي تفيض بالماء.

يتّجه نحو مكتبه، يركن سيارته في مرآبٍ مماثل لذاك الذي في بيته، ويصعد إلى المكتب بكل دفء وجفاف ومزاج “رومنسي”.

وفي المساء، يعيد المشهد نفسه. وقد يضيف إليه مباراة Padel في ملعبٍ مسقوف من هنا، أو جولة تبضّع في الـDepartment Stores من هناك.

في عالمٍ موازٍ، يقف “المغضوب على أمرهم”، كارهو الشتاء، عند الضفّة الأخرى. هؤلاء، منذ أول غيمة، يشرعون في عدّ أيام المطر بقلق، مترقّبين نهاية العاصفة. ينامون وهم يفكّرون بالطريق الذي سيسلكونه صباحاً:

هل سيغرق؟

هل ستُغلقه السيول؟

هل سيتمكّنون من الوصول إلى أعمالهم، أم يبتلعهم المطر قبل ذلك؟

وحين يستيقظون، يخرجون مسرعين، يصلّون في سرّهم ألّا تفرغ السماء مخزونها فوق رؤوسهم في اللحظة نفسها التي ينتظرون فيها السرفيس أو حين يترجّلون من سياراتهم لدخول أماكن عملهم.

وخلال النهار، قد تخطفهم فجأةً فكرة ثقيلة:

هل أقفلتُ النوافذ بإحكام؟

هل أغلقتُ الستائر؟

كي لا يعودوا مساءً إلى منزلٍ غارق.

فتتحوّل أيام الشتاء إلى دوّامة قلقٍ إضافية تُضاف إلى همومهم اليومية، وإلى أعباء مصاريف يجرّها الشتاء معه: تدفئة، مواصلات، أعطال، تسرّبات، وسيول، لا قدرة لهم على تحمّلها.

قد يحاول الناس التقرّب من بعضهم ومحو الطبقية في أحاديثهم اليومية. وقد تتكلّل محاولاتهم بالنجاح في كلّ الفصول… إلّا في الشتاء.

ففي الشتاء، تمحو الأمطار الأقنعة المرسومة على الوجوه، وتظهر الحقائق البشعة لعالمٍ وبلادٍ لا حقّ فيها ولا عدل ولا مساواة.

صيف وشتاء… تحت سماء واحدة.