1 Aug 2025
Like this post
في دمشق كما في بيروت، تتسلّل رائحة القهوة كل صباح كأنها تقول: “مهما ضاقت، هناك دقيقة تستطيعين أن تتنفّسي فيها”. كنتُ أظنّ دائماً أنّ القهوة مجرّد مشروب صغير، حتّى أدركت أنّها في بلادنا ليست عن الكافيين بقدر ما هي عن الإنسان. نحن لا نغلي القهوة لنستيقظ فحسب، بل لنؤكّد لأنفسنا أنّنا لا نزال هنا، وأنّ التفاصيل الصغيرة قادرة على إنقاذنا من الانهيار الكبير.
التقيتُ بصديقة لبنانية في بيروت لم يجمعنا مقهى فاخر ولا رائحة فنجان مُعتّق، بل مقهى صغير في شارع مزدحم، مقاعدهُ قديمة وجدرانه مزيّنة بآثار أحاديث كثيرة قد سبقتنا؛ كنّا هاربتين من ضجيج أكبر من قدرتنا على احتماله؛ أنا من غربة ثقيلة، وهي من حياة تنهكها التفاصيل اليومية، طلبنا القهوة وجلسنا في صمت. وبين الرائحة الأولى والرشفة الأولى، شعرت أنّ المكان كلّه تحوّل من زحمة عادية إلى ملجأ صغير.
قالت لي وهي تحدّق في فنجانها: “في بيتنا، لم تكن القهوة بداية يوم، كانت بداية حديث”. ابتسمتُ وقلت: “وفي بيتنا في دمشق، كانت القهوة دعاءً تغليه أمي على نار هادئة، كأنها تهيّئ لنا قلباً دافئاً قبل مواجهة العالم”.
ضحكنا قليلاً، لكن في تلك اللحظة فهمت شيئاً أكبر من القهوة نفسها: أنّ هذا الطقس الصغير هو اللغة المشتركة التي تمنحنا مساحة للبقاء، نحنُ الذين نحيا بين الحروب والأزمات.
القهوة في سورية كما في لبنان ليسّت مجرّد عادة؛ هي رابط عاطفي وثقافي، مساحةٌ آمنة وسط الفوضى. في الأعياد والمآتم، في اللقاءات الأولى والوداعات الأخيرة، تأتي القهوة دائماً لتقول شيئاً نيابة عنّا. حتى في أحلكِ الظروف، ظلّت حاضرة، كأنّها تقاوم معنا، كأنّها تقول: “هناك تفاصيلٌ صغيرة لا يستطيع أحد أن ينتزعها منكم”.
مع مرور السنوات، ومع كل فنجان قهوة شربتهُ بين دمشق وبيروت والغربة، بدأت أرى الحجة الحقيقية وراء هذا الطقس البسيط؛ هو أنّ الشعوب التي تعيش تحتَ الضغط تحتاج إلى رموزٍ صغيرة تمنحها شعوراً بالسيطرة، ولو لخمسِ دقائق مثل الدقائق الخمس التي احتاجتها السيدة فيروز لتستمع إلى الموسيقى قُبيل رحيل زياد الرحباني.
القهوة ليست هروباً بل طريقة للبقاء، هي ليست رفاهية بل مساحة مقاومة هادئة تذكّرنا بأننا بشر، لا أرقام و أخبار.
اليوم، حين تفوح رائحة القهوة في بيتٍ صغير أو مقهى مزدحم، لا أشمّ بنّاً محمصاً فحسب، بل أشمّ ذاكرة جماعية. كل رشفة هي جسر بين دمشق وبيروت، بين بيت تهاوت جدرانه وبيت يحاول أن يصمد، بين أم تغلي القهوة بدُعاء، وفتاة تبحث في فنجانها عن خدعة بصرية تنقذ يومها.
ربما القهوة لا تغيّر العالم، لكنّها تغيّر قدرتنا على احتماله. تمنحنا شجاعة أن نكمل، رشفة بعد رشفة، يوماً بعد يوم. وهنا تكمن قيمتها الحقيقية في أنّ الأشياء البسيطة هي التي تبقي قلوبنا حيّة وسط الضجيج الكبير. القهوة ليست مشروباً على الإطلاق، بل حجّة ناعمة على أنّ الإنسانية تُبنى من التفاصيل الصغيرة التي ننقذ بها أنفسنا، كلّ صباح.