13 Dec 2025
Like this post
بالواقع، لا تتفق المبادئ الشيعية، التي ترتكز على الغيب والانتظار كقيمة خلاصية، مع المبادئ الشيوعية، التي تؤسس على المادية الجدلية والثورة كأداة تغيير حتمي. ومع ذلك، شكلت الجماهيرية الشيعية، سواء عبر المؤسسات الرسمية أو التنظيمات الشعبية، دعمًا قويًا للمدرسة الشيوعية، على الرغم من التناقض الجذري بينهما. قد يعتقد البعض أن هذا الدعم ينبع من خطاب مظلومية مشترك، يجمع بين المظلومية الطبقية والمظلومية الطائفية، ويعطي الشعور بأن هناك أرضية فكرية مشتركة، بينما في الواقع كان الأمر مرتبطًا بالظروف الاجتماعية والسياسية أكثر من أي توافق أيديولوجي حقيقي.
في الحقيقة، بعد الحرب الباردة، شكلت إيران، ذات الأغلبية الشيعية والتي نصّبت نفسها كمرجعية لشيعة العراق ولبنان، تحالفًا سياسيًا استراتيجيًا مع روسيا، ومع مشاركة دول أخرى مثل الصين، لتصبح الأرضية مناسبة لانتشار الفكر الشيوعي بين المجتمعات الشيعية العربية. هذا التحالف السياسي لم يكن وليد اتفاق فكري، بل نتاج مصالح استراتيجية مشتركة ضد الغرب، ما أدى إلى انتشار “كيمياء ظرفية” بين الشيوعية والشيعية، أي اندماج رمزي بينهما، على الرغم من التناقض الأيديولوجي الجذري. إيران، بدعمها للشيوعية في فضاءات شيعية معينة، خلقت تأثيرًا مزدوجًا: نقلت الشعور بالمظلومية الدينية إلى إطار سياسي–ثوري، وعززت قبول الجماهير العربية الشيعية للخطاب الشيوعي كأداة احتجاج ومقاومة، حتى لو لم تتفق نظريًا مع مبادئه المادية.
الأحزاب اليسارية كثيرًا ما انساقت أو أعربت عن إعجابٍ عمليّ/رمزي بـ”حركات التسليح الشيعي” حينما وُصِمت هذه الحركات بأنها جزء من مقاومة ضد احتلال أو هيمنة خارجية؛ هذا الإعجاب لم يكن دائماً امتثالاً لإطار أيديولوجي موحد بل قراءة استراتيجية لأن المسألة تُعرض أحياناً بصيغة “مقاومة/تحرر” لا كقضية طائفية بحتة.
في لبنان مثلاً، شهدت سنوات الصراع تحالفات وتقاطعات فعلية بين قوى يسارية وميليشيات شيعية أو تشكيلات شيعية مسلحة في مواجهة التدخلات والاحتلال، وكانت الأحزاب الشيوعية اللبنانية حاضرة تاريخياً على ساحات المقاومة إلى جانب تشكيلات مثل حركة أمل في مراحل الحرب، وهو تعاون توثّقه سجلات الحرب الأهلية وتراجم تشكيلات المقاومة.
على أرض الواقع المعاصر، الحزب الشيوعي اللبناني استمرّ في مواقف تضامنية مع ما يُقدَّم أحيانًا كـ”مقاومة” ضد الاعتداءات الإقليمية أو الإسرائيلية، ونشر بيانات ومواقف رأي تؤكد هذا الخط السياسي التضامني — الأمر الذي يوضّح أن الدعم اليساري أخذ شكل تعاطف ومساندة سياسية ورمزّية، أحيانًا إلى حدِّ المشاركة الميدانية في محطات مقاومة محددة.
في العراق، أمثلة التحالف العملي أكثر تعقيدًا: الأحزاب اليسارية العلمانية مثل الحزب الشيوعي العراقي دخَلت قواسم سياسية مع قوى شيعية (أحياناً حركات اجتماعية دينية مثل التيار الصدري) لمواجهة الفساد أو التهميش، ما أدّى إلى شراكات انتخابية أو تحالفات تكتيكية تُظهر أن اليسار لم يرفض كل أشكال التلاقي مع الفاعلين الشيعيين عن بُعد سِجاليّ أو أيديولوجي. هذه الوقائع تفسيرها سياسي – تكتيكي أكثر منها إقرارًا بنصوص أيديولوجية مشتركة.
أما على المستوى الدولي، فقد صدرت بيانات وتضامن من أحزاب شيوعية ومنظمات يسارية عالمية تُعامل مجموعات مثل حزب الله أو قوى المقاومة في المنطقة بصيغة قوة مقاومة ضد الهيمنة وليس بالضرورة كدعمٍ لأيديولوجيتها الدينية: شبكات الأحزاب الشيوعية العالمية وأحزاب اليسار الأوروبية واللاتينية شاركت في بيانات تضامن واسعة مع الشعب اللبناني أو المقاومة الفلسطينية واللبنانية في مناسبات مختلفة، وهو تضامن سياسي يقرأه بعض المراقبين كدعوة لوحْدة ضد النفوذ الأميركي والغربي أكثر منه اعتناق أيديولوجي للشّيعَة.
الخلاصة التحليلية : الإعجاب أو التعاطف اليساري مع حراكات التسليح الشيعي كان في أغلب الحالات تضامناً سياسياً واستراتيجياً مبنياً على محور “مقاومة/مواجهة الهيمنة” لا نتيجة انسجام نظري بين المادي والغيب. لذلك نرى الدعم اليساري متقطعًا، تكتيكيًا، ومشروطًا بالسياق (احتلال، عدوان، تضييق سياسي)، وليس تحولاً أيديولوجيًا يجعل من اليسار ذراعًا دائمًا للفاعلين الشيعيين.
محاولة الجمع بين الشيعية والشيوعية ليست مزجًا خلاّقًا، بل توفيقًا مستحيلًا بين نقيضين أنطولوجيين. الشيعية تؤمن بأن العدالة تتحقق في السماء، بينما الشيوعية ترى أن العدالة تُصنع على الأرض عبر الصراع الطبقي. ومن هنا تنشأ المفارقة الوجودية: الفرد الذي يحاول الجمع بينهما يعيش حالة من الانقسام الفكري المستمر.
كما كتب هادي العلوي: “لا يجتمع عليّ بن أبي طالب مع ماركس إلا في الشعر؛ أحدهما يرى العدل في السماء، والآخر يريد سرقته من الأرض”.
وعليه، يصبح الفرد إما شيعيًا حقيقيًا ولكنه شيوعي زائف، أو شيوعيًا حقيقيًا ولكنه شيعي زائف؛ إذ لا يمكن أن يكون كلاهما صادقًا في الوقت نفسه. هذا التناقض الوجودي يضع الجماهير والأفراد في حالة وعي مزدوج متناقض، حيث يحاولون توحيد المادي والغيب في خطاب واحد، لكن العقل والمنطق يمنعان تحقيق ذلك، ليصبح المزج مجرد وهم تنظيمي أو رمزي.
الجماهير التي تحاول الجمع بين الشيعية والشيوعية تعيش حالة نفسية مزدوجة، فهي تعبد الغيب وترفع المطرقة في الوقت نفسه. من منظور التحليل النفسي الاجتماعي، كما أشار إريك فروم، حين يعجز الإنسان عن احتمال الحرية المطلقة، يلجأ إلى سلطة مطلقة تمنحه معنى وأمانًا، سواء كان الإمام أو الحزب. الجماهير الشيعية–الشيوعية تبحث عن الأب الرمزي الذي يوجّه مصيرها، وتجعل من الانتماء إلى قضية كبرى ملاذًا نفسيًا ضد الإحباط والتمييز الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، يتغذّى هذا المزج على نزعة التعويض النفسي: الفرد الذي يعيش تهميشًا اقتصاديًا أو سياسيًا يبحث عن خطاب يمنحه كرامة رمزية. الشيعية تمنحه “قداسة المظلوم”، والشيوعية تمنحه “بطولة الثائر”. وعندما يجمع بينهما، يشعر بأنه يمتلك قداسة الثورة، أي مزيجًا من الشهادة والمقاومة، الدم والفكر، الدين والسياسة، مع أن هذا المزج يولّد انقسامًا داخليًا رمزيًا، إذ يعي الفرد المزدوج أنه لا يمكن الوفاء بالولاء الكامل للغيب والمادة معًا.
كما لاحظ فالح عبد الجبار: “الوعي الشيعي الماركسي ليس مزجًا بين الدين والمادية، بل تعويض رمزي عن الفشل التاريخي في تحقيق الخلاص”.
الجماهير، إذ تعجز عن إنقاذ واقعها، تخلق من التناقض خلاصًا نفسيًا: أن تكون ثوريًا مؤمنًا، ومؤمنًا ثائرًا، لتشعر بأنها لا تزال على صواب، حتى حين يخذلك التاريخ.