26 Sep 2025
Like this post
في ليلة ما سمي سقوط النظام وكونها كانت ساعة الفجر فكنت فعلياً في بيتي مع عائلتي.
أمي أبي وأخي، وكل شيء كان كأنه لا يزال يسير على عادته. كنت أسمع أصواتهم؛ صوت أبي الذي لطالما كان معارضاً لبشار الأسد، وكان مبتهجًا بسقوطه مع صوت أخي وأمي اللذان كانا مصدومين و متحيرين في الوقت ذاته. أمّا أنا فلم أكن أشعر بالحماس أو الحزن، بل كان هدفي الوحيد في تلك اللحظة أن أتمكّن من مواصلة نومي، وكأنّ سقوط النظام لا يعني لي شيئًا، أو ربما لأنني فقدت جزء كبير من تواصلي مع الوطن، فقدت الحماس و فقدت الانتماء.
كانت علاقتي بالوطن محدودة جدًا، ليست بالمعنى العاطفي، بل بالحاجات العملية، كيف أعيش، كيف أهاجر، كيفَ أجد فرصًا للدراسة بأقلِ تكلفة ممكنة، وكيف أستطيع أن أستمر في الكتابة في مواقع ومجلات لأبقي نشاطي الأدبي مستمر وهذا النشاط لم يكن مجرد هواية بل مصدر دخلي الذي يحفظ لي استقلاليتي وكرامتي.
اللحظة التي سقط فيها النظام كانت غريبة جدًا بالنسبة لي، كنت أسمع أصوات الفوضى في الشارع، أذان الجامع، ومباركات الشيوخ لبعض، كان الصوت مختلفاً عن كل ما اعتدت عليه في صلوات الفجر الهادئة التي لا أشعر بها عادةً. شعرت فجأة برغبة غريبة أن أنهض من سريري وأتوقف لأستوعب ما يحدث حولي، لكنّ الكهرباء كانت غائبة عنا نحن السوريون كعادتها و بطارية هاتفي منخفضة ، فتحته ووجدت الخبر الذي لا يمكن أن يصدّق: سقوط النظام مع صوت المذيع بقناة العربية “سورية الآن من دون بشار الأسد”.
مع الخبر، رأيت كمية الهجوم والانتقاد المرعبة بين الناس ممن أعرف مواقفهم جيدًا، وكان كل شيء يدفعني إلى التساؤل: أين أنا في كل هذا؟ أنا التي لم أكن مع النظام ولا مع المعارضة، أنا الرمادية التي لم تشارك يوماً بالثورة السورية لم أؤمن بها لأنها لم تكن تمثلني بكل تفاصيلها، وفي الوقت ذاته كنت أخاف من رماديتي، لأنني أولاً إنسانة سورية أؤمن بالمواطنة و التي تبدو مفقودة في سوريا اليوم. كل طرف يحاول أن يفرض صورته، وكل منا يبحَث عن مصلحته الخاصة، والمصلحة الوطنية تاهت وسط هذا الصراع.
بعد مرور أشهر على سقوط النظام، ازداد خوفي بدلاً من أن يقل. استمرار القتل والدمار، المجازر في الساحل التي تركت جرحًا عميقًا في داخلي لا يلتئم، تفجير الكنيسة في الدويلعة الذي أصابني بصدمة كبيرة وفجعت قلبي، حالات الخطف لنساء علويات التكوين مع رفض مجتمعي لتصديق أنهن مخطوفات حقاً أو سبيات حتى، كلّها أمور تزيد من ثقل الخوف في روحي. الفكر المتطرف الذي يستبدل العقول بالجهل والتطرف، ذلك الفكر الذي يبدو أنّه يسيطر على المشهد، يجعلني أخاف من الناس أكثر من أي وقت مضى. خسرت عملي بسبب طائفتي وفقدت الكثير من الأمل في الغد، كل شيء ينهار حولي وكل شيء يبدو وكأنّه يغرق في ظلام لا نهاية له.
بعد سقوط النظام، تغيّر كل شيء داخليًا وخارجيًا. الخوف استقر أكثر في قلبي، وبدأ يتسلل إلى تفاصيل حياتي اليومية. لم تعد أصوات الفرح أو الأمل تسمع في الشارع، بل ازدادت همسات الخوف والشك في كل مكان. كنت أستيقظ كل صباح وأنا لا أعرف ماذا يحمل هذا اليوم، هل سأجد فرصة عمل؟ هل سأتمكن من كتابة نص جديد ينشر؟ هل سأبقى مستقلة أم أُجبر على الاعتماد على أحد؟
الخوف لم يكن فقط من الشارع أو العنف المنتشر، بل كان خوفًا شخصيًا، من فقدان كرامتي وحقوقي بسبب طائفتي التي لم أختارها ولكنّها صارت تعرقل كلّ خطوة في حياتي. فقدت عملي، وشعرت أنّ الباب يغلق أمامي من دون سبب واضح سوى أنني لست من “الطائفة” المناسبة. هذا جعلني أشعر بالغربة، حتّى في بلدي.
ومع ذلك، حاولت أن أجد طريقة للحفاظ على تواصلي مع الوطن، ليس من خلال السياسة أو الانتماءات، بل عبر كلماتي، عبر الكتابة التي كانت ملجئي الوحيد. الكتابة لم تكن مجرد هواية أو عمل، بل كانت حصني الذي أحتمي به من جحيم الواقع. كنت أكتب في المواقع والمجلات، أشارك قصصي الصغيرة، أحاول أن أبني عالماً صغيراً يبقى معي على الرغم من الخراب حولي.
أحلامي البسيطة تغيرت، وأصبحت أحلم فقط بأن أعيشَ بكرامة، أن أستمر في التعبير عن نفسي من دون خوف أو ضغط، وأن أجد فرصة للدراسة أو السفر بعيدًا، حيث أستطيع أن أبدأ من جديد من دون أن أكون أسيرة طائفة أو نزاع لم أوافق على حدوثه منذ بدايته.
لكن على الرغم من كل المشاهد القاسية التي نعيشها نحن السوريون يبقى لدي أمل صغير خبأته بجيبة سترتي التي أرتديها بشكلٍ متواصل ، أؤمن أنّ في الكتابة وفي صوتي المتواصل قوة، حتى لو كانت خافتة. أؤمن أنّ من خلال سردِ قصصنا، و من خلال مشاركة حكاياتنا، يمكن أن يبدأ التغيير، يمكن أن نبني وطنًا جديدًا في كلماتنا، وطنًا يحترم الإنسان بغض النظر عن انتماءاتهم.