جيلٌ مسجون بالشاشات

جيلٌ مسجون بالشاشات

هل تتذكّر حساب فيسبوك الأول الذي أنشأته؟ أكان في العام 2009؟ أم قبل ذلك؟ وماذا عن إنستغرام؟ تويتر؟ لينكد إن؟ ريديت؟ وغيرها من المنصات التي تتابعت في السنوات الأخيرة، لتربط هذا العالم كله بخيطٍ واحد، وتُجسّد مصطلحاً لا يزال حاضراً حتى اليوم: القرية الكونية الصغيرة.

لسنا هنا بصدد الخوض في شرح هذا المصطلح، فدروس الحاسوب في المرحلة الابتدائية كفيلة بذلك. إنما السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: هل تركت وسائل التواصل الاجتماعي أثراً إيجابياً فعلياً، وأحدثت نقلة نوعية في أسلوب حياتنا مقارنة بما كان قبل ظهورها؟ أم أن الواقع الافتراضي بات بديلاً يتسلّل إلى تفاصيل حياتنا الواقعية؟

هنا تماماً يكمن مربط الفرس.

لا شكّ أن العالم قبل الإنترنت يختلف كثيراً عمّا بعده، لكن الأدق أن عالم وسائل التواصل الاجتماعي غيّر شكل الحياة كما عرفناها، وهذه حقيقة لا خلاف عليها.

أتتذكّر كيف كنّا نرسل الرسائل في السابق؟ وكم من الوقت كانت تستغرق؟ كان مكتب البريد هو الوسيلة الوحيدة، وكان وصول الرسالة يستغرق أيّاماً. وربما لهذا السبب تحديداً، كان للحب قديماً نكهته الخاصة، تتجلى في رسائل العشق البريدية.

فما بالك لو بات زمن الرسالة لا يتجاوز جزءً من الثانية، أو بالأحرى فيمتو ثانية؟

جاءت السوشيل ميديا، كواحدة من أبرز ابتكارات ما بعد الإنترنت؛ رسائل وصور وفيديوهات تُرسل حول العالم بسرعة مذهلة، وتواصل فوري، وأصدقاء من مختلف أنحاء الأرض، وثقافات تتقاطع وتتداخل، وغرف دردشة تضجّ بالمحادثات لساعات طويلة.

والفيسبوك خاصةً، له ذكريات لا تُنسى… هل تذكُر صديقك الأول عبر فيسبوك؟ وكيف كنتما تتبادلان الحديث حول طريقة كتابة الإيموجيّات عبر لوحة المفاتيح؟

ماذا عن الأبحاث العلمية؟ وعن النقاشات مع أساتذة من مختلف الجامعات؟ وماذا عن الوقت والجهد الذي وفّرته هذه المنصات في بداياتها؟ وصولاً إلى الواقع الافتراضي المدمج مثل الميتافيرس وغيره… ومن يدري ما الذي يحمله المستقبل؟

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرّد مواقع على الشبكة، بل أصبحت عالماً نابضاً؛ بالمشاعر، بالأحاسيس، بالدعم، بالأصدقاء، بالنصائح، بالأحلام، بالذكريات، بالأمل، بالفرح، بالحزن أيضاً، بالضحكات، وبمواسم الخطوبة والزواج التي تظهر فجأة في وقت الامتحانات، وكأن هذا الموسم لا يظهر إلا حينها، بينما يسود الصمت العاطفي باقي أيام العام.

السوشيل ميديا نعمة، لا يدرك قيمتها إلا من عاش زمناً قبل ظهورها، فهو الأقدر على ملاحظة التغيير الذي أحدثته التكنولوجيا في تفاصيل الحياة.

عالم افتراضي ينهش بالعالم الواقعي

من المؤكّد أن مواقع التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدّين، فكما تحمل فوائد جمّة لا تُحصى، فإن لها أضراراً جسيمة، لدرجة أن حياة الملايين باتت تُهدر داخل هذا العالم الافتراضي.

مثلاً، من أبسط أضرارها وأقلّها شأناً مقارنة بغيرها، هو إضاعة الوقت. جرّب الآن: افتح حسابك عبر تيكتوك، واذهب إلى خانة “متوسط الوقت المستغرق على التطبيق”، وستصدمك النتيجة.

لن يكون الأمر مجرد ساعة أو ساعتين، بل قد تجد أنك تقضي ما يقارب 8 ساعات يومياً في هذا العالم الرقمي، وربما أكثر.

تبدأ هذه الساعات منذ لحظة الاستيقاظ، إذ تكون يدك الأولى إلى الهاتف، تتصفح الإشعارات، تبحث عمّن وضع إعجاباً، أو شارك منشورك، أو أرسل لك رسالة. وإن لم تجد شيئاً؟ لا تقلق، فلست وحدك في هذا المشهد.

في عصر السرعة، لم يعد المال هو رأس مال الإنسان، بل الوقت، وهو أثمن ما سرقته منا وسائل التواصل.

أعلم ما ستقوله: “الإنسان الواعي هو من يتحكم بوقته”، لكن الحقيقة أن كثيرين قالوا هذا… والأرقام أمامك لا تكذب.

الأسوأ من ذلك، أن حياتنا انقلبت رأساً على عقب؛ بات العالم الافتراضي هو الواقع الحقيقي، فيما تلاشت ملامح الواقع الفعلي. نقضي يومنا بين الأصدقاء الرقميين، في مجموعات ومنشورات، ولايكات وتريندات. وأصبح مقياس أهمية الإنسان مرهوناً بعدد المتابعين؛ فكلما كثر عددهم، زادت قيمته، ومن قلّ عددهم، تضاءلت مكانته.

أيّ معيار هذا الذي يُقاس به الإنسان؟

في الماضي، كانت القيمة تُقاس بالمعرفة والخبرة والتجربة، أما اليوم؛ فحدّث ولا حرج.

الترند بات الكارثة الأكبر في هذا المشهد؛ أصبحنا نلهث خلفه بجنون، نبدأ يومنا بسؤال واحد: ما هو الترند اليوم؟ ونسارع في إبداء آرائنا، سواء كنا نفهم في الموضوع المطروح أم لا. فالمهم هو المشاركة، حتى وإن كانت كلماتنا تحمل من الضرر أكثر مما تنفع.

قوانين السوشيل ميديا، كما يبدو، تفرض علينا ألا نبقى خارج دائرة المشاركة، حتى لا نصبح منبوذين من هذا العالم الحديث.

الأسوأ حين لا يكون الترند متعلقاً بحدث، بل بشخص، والأسوأ من ذلك إن كان ذلك الشخص مظلوماً، لكن التيار العاطفي الجارف لا يرحم. فيتحوّل المظلوم إلى هدف لهجوم شرس من كل من هبّ ودبّ، من دون وعي أو إنصاف.

أما الاستشارات الأسرية، فهي كارثة أخرى لا تقلّ خطورة. عائلات تفكّكت، وأطفال تشردوا، بسبب تعليق من شخص مجهول الهوية، يسكب سُمَّه في منشور استشارة، يقدّم نصيحة ظاهرها نُصح، وباطنها خراب.

المؤلم أن هذا يحدث على مرأى الجميع، فيما يتلذّذ البعض بمشاهد الانهيار. فبدلاً من أن تكون مواقع التواصل مساحة لتبادل الخبرات الحياتية من أهل التجربة، تحوّلت لدى كثيرين إلى ساحة لبثّ السلبية، وهدم الأسرة، وتدمير الرجل والمرأة، ونسف الاستقرار النفسي للصغير والكبير. وكما يُقال، باختصار شديد: كسرٌ للأجنحة والمجاديف.

ومع الأسف، أصبحت هذه المنصات بيئة خصبة لكل ما هو متطرّف؛ من صفحات نسوية وذكورية، إلى خطابات طائفية وفتن متراكمة.

هل نحن على دراية بكل هذه الأضرار الناتجة عن مواقع التواصل الاجتماعي؟ بلا شك، وأنا واثق تماماً، بل بنسبة مليار في المئة، أنك تدرك ذلك جيداً. فكما يعرف المدخّن أضرار التدخين ويظلّ مدمناً عليه، فإن إدمان مواقع التواصل يُعدّ من أشد أنواع الإدمان وأكثرها تعقيداً. هل تستطيع أن تنأى بنفسك تماماً عن هذا الإدمان؟ الإجابة متروكة لك، لكننا جميعاً نعلم أن الأمر يكاد يكون مستحيلاً لمن ربط حياته بهذه المنصات، ومع شيء من التفاؤل، يمكن القول إن الابتعاد عنها صعب، لا أكثر.

هل تتذكّر، كيف كانت حياة الأولاد قبل ظهور مواقع التواصل؟ كانوا يعودون من المدرسة، يتركون الحقيبة جانباً، وينزلون إلى الشارع، حيث الصحبة، ولعب الكرة، والغميضة، والجري، والمرح حتى المساء. ثم يعودون إلى البيت، إلى جلسة الأهل والمشروبات الساخنة، و”التوبيخ التقليدي” من الأمهات لإنهاء الواجبات. حتى هذا التوبيخ اختفى اليوم، ليحلّ محله ما يُعرف بـ”التربية الإيجابية”.

أتتذكّر قرصة الأم التي كانت تترك أثراً أزرق في اليد حتى نهاية العام الدراسي؟ لا ندعو طبعاً إلى العنف، لا في الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، لكن من منّا لا يتذكر موقفاً كهذا؟ وبالطبع، تذكّره الآن لا يثير إلا الضحك.

أنت الآن، على الأرجح، لديك عائلة وأطفال، أو على الأقل تنتمي إلى فئة العُزّاب، فهل يمكنك أن تصف لي حال الأطفال اليوم؟ إنهم أشبه بالزومبي، يتجوّلون والهواتف في أيديهم، رؤوسهم منحنية نحو الشاشات ليلاً ونهاراً، باستثناء قلّة منهم، لأن هواتفهم مسحوبة مؤقتاً بحجّة الدراسة.

على الرغم من أن التعليم بات شبه إلكتروني، والواجبات تُرفع على المنصات، والمذاكرة تتم عبرها، إلا أن الخبرة الرقمية لدى الطفل تكاد تقتصر على اكتساب النقاط وإنجاز المهمّات في الألعاب.

هل تتذكّر شعور كرة القدم حين ترتطم بوجهك وتترك علامة؟ هل تتذكّر رائحتها؟ تلك ذكريات حُرم منها هذا الجيل.

سأخبرك بالحقيقة الصعبة التي لا مفرّ منها: لقد جعلت مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل خاص، والإنترنت عموماً، حياتنا أكثر كسلاً.

صحيح أنها سهّلت الكثير من جوانب الحياة، لكنها في المقابل أثقلت حركتنا. فبدلاً من زيارة الأهل والأحبّة والجلسات العائلية، أصبح كل شيء يُختصر في مكالمة فيديو أو لقاء في غرفة صوتية. وبدلاً من ممارسة الرياضة أو التمشية مع العائلة، باتت الرياضة الحديثة هي كسر الحواجز في الألعاب الإلكترونية.

أصبحت العلاقات تنتهي بضغطة “بلوك”، والرسائل بين الناس باتت جامدة خالية من الروح، وصار مقياس الدنيا يُرى بعدد الإعجابات على المنشورات.

كن واعياً، واستيقظ من هذه الغفلة. فالإنترنت سلاح ذو حدّين، وأنت وحدك من يقرّر إن كان أداة في خدمتك أم كنت ترساً في آلته، يستفيد منك أصحاب المنصّات إلى أقصى حدّ، بينما تتآكل حياتك من دون مقابل.

انظر إلى عدد الساعات التي تقضيها على الهاتف، وقرّر أن تُدخل إلى يومك عادات مفيدة: قراءة، رياضة، تنزّه، والتواصل مع الحياة الحقيقية.

اجعل وقتك عبر المنصّات الرقمية جزءً إضافياً، لا أساساً، فالمتابعون لن يُحاسبوك إن غبت، ولن يقفوا إلى جانبك إن سقطت، وإن فعلوا، فلن يتعدّى الأمر تعاطفاً رقمياً عابراً.

أنت الأدرى بمصلحتك، وأنت الأحقّ بكل دقيقة من وقتك تُهدر في هذا العالم الافتراضي.

المواضيع