الهجري ووهم الانفصال: فاقد الشرعية لا يعطيها

مسلحون تابعون للهجري ضربوا مئذنة المسجد الكبير في السويداء، في فعلٍ يتجاوز العنف المادي ليكون رسالة سياسية بلسانٍ مدوٍ. هذه الضربة قد تكون قطعاً متعمداً لكل خيوط العودة إلى طاولة الحوار؛ فالمئذنة هي رمز ثوري ومِسعَرُ حرب، كان يتجمّع الآلاف تحت ظلها يهتفون ضد الطغيان، وليست مجرد حجر. فأيّ من يضربها يضرب بالأصل قدرة المجتمع على التلاقي والإنتقال السياسي السلمي.

تلا تلك الحادثة احتجاجات لم تُدرَج مفاهيمها سابقاً في السردية السورية؛ إذ إن الأمر تجاوز معارضة الحكومة كحقٍّ شرعي، وتجاوز مطالب اللامركزية، ليصبح دفعاً نحو انفصالٍ أحادي في محاولةٍ لقضم الخريطة السورية وإعلان العداء ضد أبنائها.

الانفصال هنا ليس دفاعاً عن النسيج الدرزي بقدر ما هو آلية لاستبقاء نفوذ “كيان الهجري”، إذ تستثمر بعض الميليشيات مكاسبها الميدانية كرافعة لعرقلة عودة دمشق وفرض قواعدها، لأن أي إعادة ترتيب مركزية ستقضي على امتيازات هذا الكيان.

بهذا يتحوّل الرمزيّ من قداسةٍ روحية إلى مطمعٍ في الرياسة السياسية تُبنى عليه مشاريعُ حكمٍ انفصالية ، إذ تحلّ مطالب الامتياز المبنية على القوة المدعومة من طرف ثالث محلّ العقد الاجتماعي المتبادل، فتتآكل اللغة المشتركة للمواطنة وتصبح الذاكرة العامة ساحة تنافس على الهيمنة.

رفعُ راياتٍ طائفيةٍ إلى جانبِ علمٍ أجنبيّ، وإنزالُ العلم الوطني أو استبداله بأعلامٍ أخرى، هو طقْسُ خيانةٍ رمزيةٍ لِمُضرَبٍ من القيم المشتركة التي تُبقي المجتمعَ مترابطاً . ومشاهدُ رفعِ العلم الإسرائيلي في احتجاجاتِ السويداء واستبدال العلم السوري برايات طائفية تُحوّل الصراع من مطالب إدارية إلى مسرحٍ لهويةٍ مُقتطعة يشرعنُ العنف الرمزي. فالعلمُ ليس قطعة قماشٍ تُدارُ وفق المزاج، إنما هو تعاقدُ ثقافيّ يُعبِّر عن حدٍّ أدنى من الاحترام المتبادل والالتزام، هذا الانزلاقُ يضعُ المجتمعَ في حلقةٍ من الانقسام تستثمرها مَصالحٌ شخصية ومجموعاتٌ مسلحة.

على الصعيد القانوني، ينظر القانون الدولي إلى أي مشروع انفصال باعتباره قضية معقّدة بحسب ميثاق الأمم المتحدة ـ المادة 2/فقرة 4 التي تنص على حظر تهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي للدول. القاعدة الأساسية هي احترام وحدة الدول ومنع فرض الأمر الواقع بالقوة، هذا يعني أن أي خطوة أحادية لإعلان الاستقلال تبقى مهددة بعدم الاعتراف والعزلة السياسية.

أما حين تتحول الاحتجاجات إلى سيطرة مسلّحة على الأرض، مع حالات تهديد وإقصاء، فإن الأمر يفتح باب الملاحقة الجنائية الدولية باعتبارها انتهاكات ممنهجة بحق المدنيين. كما أن أي دعم خارجي لجماعات مسلحة يعرّض الدول المتورطة إلى مساءلة دولية وعقوبات، من عدم الاعتراف السياسي إلى العقوبات الاقتصادية بحسب مشروع مواد لجنة القانون الدولي بشأن مسؤولية الدول (2001).

في النهاية، هناك مساران متاحان: الأول داخلي يركّز على إصلاح النظام القانوني والسياسي لتجاوز أسباب الاحتقان، والثاني دولي يهدف إلى حماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، مع الحفاظ على وحدة الخريطة السورية بدلاً من تركها رهينة لمنطق السلاح.

أحدُ بديهيات أيّ مطلبٍ انفصاليّ هو وجودُ إجماعٍ واضح أو على الأقل فضاءٌ سياسيّ حرّ يسمحُ بقياس إرادة السكّان.
في السويداء، الإطارُ الحرّ هذا مُستنزف؛ تقاريرٌ محلية وتسجيلاتٌ متداولة تُشير إلى سيطرة لميليشياتٍ مرتبطة بالهجري على مشهد القوة، مع كتمٍ إعلاميّ للأصوات الوطنية المخالفة.

تواترتْ تسريباتٌ وتقاريرٌ أفادت باعتداءاتٍ وتهديداتٍ طاولت مشايخَ معروفين (حمود الحناوي ويوسف الجربوع) ومحاولاتٍ مُتكرِّرة لاستهداف القيادي ليث البلعوس، ما يجعل من أيّ “إرادة شعبية” قابلة للطعن أو الشكّ في مصداقيّتها. أي أن وجودُ هذا المناخ القسري يُضعفُ الحُجّة القانونية أمام المحافل الدولية، إذ تصبح مسألةُ الاعتراف والاستناد القانوني عرضةً للتجاهل بسبب افتقاد شرط الحرّية والإجماع الذي تُفترضُه السوابق الدولية.

ختاماً… لا شرعية لأحد يتسلّط بدعمٍ خارجي من الاحتلال ففاقد الشرعية لا يعطيها . السويداء أرض عربية سورية، وحق تقرير المصير من حق شعبها الحر المستقل وحده لا لسلطة تُفرض بالقوة، ولا لتمثيل يُشترى.