الــدورة الكامـلـة للتاريـخ

هذا العام لم يكن قدّاس الشهداء ككلّ عام.
لطالما جلستُ على أريكتي أتابع عبر الشاشات طقوساً تتجدد كل سنة، وفي داخلي غصّة تكاد تخنقني، ودمعة تحضر فجأة إلى عينيّ.
لكن هذه المرّة كان مختلفًا؛ شعرت أنّ الدنيا لا تسعني.
كأنّ الأرض التي سُحقت بالظلم لعقود، قررت أن تنفض عن نفسها الركام وتتنفّس من جديد.

للمرّة الأولى، بدا لي أنّ قدّاس “شهداء المقاومة اللبنانية” يعلو في سماء الشرق الذي أثقله المنفى والصمت، ليملأه نوراً وإشعاعاً. الذكرى التي أرادوا خنقها يوماً بالخوف والسلاح، ها هي تنهض أقوى، تحوّلت من صرخة مكتومة إلى تراتيل تتردّد في فضاء وطن متحرّر من أثقال الطغيان.

الأجراس اليوم، تعلو مُعلنة زمناً جديداً. الأرض نفسها التي انحنت مجبرة أمام عسف الميليشيات، تفتح أبوابها اليوم لترانيم الشكر والتحدّي، بينما تتساقط أسلحة القهر التي كبّلت هذا الشرق طويلاً.

إنها لحظة تاريخية تتجاوز البكاء على الأطلال؛ لحظة اكتمال الدورة، كأنّ التاريخ نفسه قرر أن يعيد للبنان حقّه المسلوب. اجتمع المؤمنون بالحرية والسيادة، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ليقولوا لشهدائهم: لم تخنكم دماؤكم، ولم تُهدر تضحياتكم، أنتم البذرة التي أزهرت بعد طول انتظار.

وفي سكون القدّاس، شعرتُ بأنفاس العدالة تقترب. صحيح أنّ العدالة لم تتجلَّ بعد بكل وجوهها، لكنّها باتت أقرب من أي وقت مضى. هناك اعتراف صريح أنّ دماء الشهداء لم تكن عبثاً، وأنّ الوطن الذي صلّبتم من أجله قاماتكم وواجهتم الموت بابتسامة، بدأ يُعيد إليكم دينه.

اليوم، ومع قرع الأجراس في شرقٍ يتخفّف من أسلحة الطغيان، يهمس الوطن لأبنائه وبناته: لقد دار الزمن دورته، وسقط الاستبداد، وانكشف القتلة. من ظنّ يوماً أنّه فوق الحساب، بات اليوم ملاحقاً مراقباً، ومن حمل السلاح على الأبرياء صار سلاحه يتفتّت في يده.

أجل، أخذتم العدالة الإلهية منذ اللحظة الأولى التي ارتقيتم فيها شهداء، لكن اليوم أنتم تأخذون العدالة الأرضية أيضاً. الأرض التي شربت دماءكم تشهد بأنكم انتصرتم.

أيّها النساء، زغردن. أيّها الأمهات، ارفعن رؤوسكنّ عالياً. أزواجكنّ وأبناؤكنّ لم تذهب دماؤهم سدى. بعد طول انتظار، تحقق الوعد: لبنان الحرّ، لبنان السيادة والكرامة، ينهض كما حلموا به وأورثوا الحلم لأجيال بعدهم.

وهذه كلمتي إلى أبي الشهيد:
لطالما كنت فخري منذ طفولتي، واليوم صار الفخر فخرين. كنتَ تعلّمني أنّ الكرامة لا تُشترى، وأنّ الوطن لا يُقاس بترابٍ وحجارة بل بكرامة شعبه. واليوم أقول لك من قلب بيروت والشرق المتحرّر: إنّ أعظم ما أملك أنني ابن شهيد.