3 Oct 2025
Like this post
تلاحقنا هذه الصورة المخيفة كعنوانٍ محتوم: انتحارٌ لحماس، استسلامٌ تامّ، قطع رأسٍ سياسي وانتهاءُ وجودٍ في غزة. كلماتٌ تصفع الوجدان لكنها تُنطق في سياقٍ سياسي بارد: استعادة أسرى، سيطرةٌ شاملة — سياسية، أمنية، عسكرية، واقتصادية — وإبعادُ كلّ خطرٍ عن دولةٍ تحاول أن تُعيد صياغة واقعها بعد عامين من هزّة “طوفان الأقصى”.
في قلب هذه الرواية، يقف رجلٌ لا ينفكّ يكررِ وعدَه الصادق: رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي بات، بحسب هذه الصورة، على مشارف تحقيق ما اعتُبر مستحيلًا. من متجرٍ بسيطٍ إلى منظومةٍ على شاكلة مولٍ، ومن خطاباتٍ انتخابية إلى خرائطٍ عسكرية وسياسية؛ كلُّ شيء يبدو مُعدًّا لهدفٍ واحد: “الانتصار النهائي”.
التقارير تهمس بأنّ خرائطَ الحلّ التي صيغت أو رُحِّبت بها على طاولاتٍ دولية، تحملُ شرطًا صارخًا واحدًا: فكّ الكيان الآخر أو تقليمُه جذريًّا. وهنا تتبدّى المفاجأة القاسية — ليست المسألة مجرد تهيئةٍ لشكلٍ جديد من الحكم في غزة، بل مطلبُ راديكاليّ يبدأ بـ”قطع الرأس”؛ إنهاءٌ كاملٌ للقيادة، تسليمٌ للأسرى، وحلولٌ جذرية تُسندها خطةٌ دولية من منطلق أمنٍ قوميّ كما تُقدَّم بالضوء الأخضر.
لكن واقع الميدان لا ينسجم دائمًا مع سطور الخطط. هناك “نفس” لدى حماس، كما ذكرت الرواية، نفسٌ قد تُبقي على بارقةٍ من الرفض. وخلافًا للغة الخرائط، فإنّ رفضَ “الاستسلام التام” يجعلُ من تنفيذ أي “خطة” أمرًا معقّدًا، غارقًا في عوائقٍ سياسية وإنسانية وقانونية. حتى التجارب التاريخية، سواء في لبنان أو غيره، تؤكد أنّ الإنهاء الكامل لحركةٍ قد لا يترجم إلى نهايةٍ فعلية للفكرة التي ولدت منها.
من غزة إلى الضفة، ومن هناك إلى لبنان وإيران، يظلّ المشهدُ قابلًا للامتداد. من زاوية الحسابات الإسرائيلية والأميركية، قد تكون غزةُ اليوم بوابةً لخطواتٍ أكبر؛ قضمٌ هنا، تفكيكٌ هناك، وضربٌ لأذرعٍ إقليمية تبدو مهدِّدة. وفي الخلف، صورةٌ أخرى تُحضّر للحظة ما بعد الحسم: نفوذٌ جديد، هندسةٌ أمنية وسياسية تترافق مع تراجعٍ أو غيابٍ لأي أفقٍ سياسيٍ مستقلّ لفلسطينيي المنطقة.
تتكرر هنا فصولٌ مألوفة: الحلّ الأمني يتلوه غيابٌ عن الحل السياسي؛ الانسحابُ الجزئي أو المنظّم لا يعني بالضرورة سحبَ اليدِ عن المواقعِ التي تُعتَبر استراتيجية؛ والاغتيالات، بحسب ما اختلفت التجارب، قد تستمرّ طالما أنَّ من تُعتبر خطراً لم يُمحَ بعد. وهكذا، إن انسحابَ إسرائيل من غزة بعد استسلامٍ شكليّ لن يكون انسحابًا كما عرفناه في مناسباتٍ سابقة، بل تحوُّلاً في شكلٍ من أشكال السيطرة.
أما الكلام عن “اتفاقاتٍ إقليميةٍ كبر” — سلامٌ إقليميّ مبنيّ على شروطٍ وأهدافٍ كبرى ـ فليس بجديدٍ على الطاولة الدبلوماسية. لكن أن تُضمَّن إيران بالقوة في إطار “سلاماتٍ” تُفرض بعوامل الضغط، فهذا يفتح متاهاتٍ أكثر تعقيدًا: تغييرُ أنظمةٍ بالقوة أو عبر الضغوط، محاربةُ برامجٍ نووية، وإعادة تشكيلِ تحالفاتٍ إقليمية برؤيةٍ جديدة قد لا تكون بخدمةِ أحدٍ غير رغبةِ القوى الكبرى في إعادة رسم الساحة.
المشهد بكليته يطرح سؤالًا أخطر من كل الخطط: ماذا عن الناس؟ ماذا عن المدن المدمرة، عن الذكريات الممزقة، عن الأجيال التي بات مصيرها معلّقًا بين لعبةٍ كبرى وصمتٍ دوليّ؟ عندما تُحكى مصطلحاتٌ مثل “الانتحار السياسي” أو “قطع الرأس”، فإنّها ليست سوى تبيانٍ لمدى القسوة التي دخلت الخطاب، ومدى انفصال السياسات عن الحاجة الوجودية للعيش والكرامة.
ربما تكون هذه الخريطة السياسية — التي تحفلُ بخياراتٍ عسكرية واستراتيجية — مُقنِعةً لمتخذي القرار، لكنّها في الوقت ذاته تحمل في طيّاتها بذورَ أزمةٍ جديدة. لأنه مهما ثبتت قوّةُ السلاح، ومهما تبدّلَت الخرائطُ على الطاولة، فإنّ التاريخ يُصرّ على أن الأفكارَ لا تموت بقطعِ الرؤوس، وأنّ الأوطانَ لا تُعيدُ بناءَ نفسها بمفردهِ القوة.
في نهايةِ المطاف، لا يسعنا إلا أن نقرأ هذه الترهات — بين وعودٍ بالانتصار الشامل ومخاوفٍ من امتداده إلى أبعادٍ أشد خطورةً — كنداءٍ للضمير: إنّما الحربُ تُحسم بموازين القلوب قبل أن تُحسمَ بميزان السلاح؛ والسلامُ لا يزدهرُ على أنقاض البشر.