3 Oct 2025
Like this post
يعود ملف قانون الانتخاب إلى صدارة المشهد السياسي في لبنان، ليكشف مجددًا عن عمق أزمة النظام وعجز الطبقة السياسية عن الالتزام بالدستور واستحقاقاته. ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، برز النقاش حول حق المغتربين في التصويت، إذ تسعى بعض القوى إلى حصر مشاركتهم بانتخاب ستة نواب فقط، بدلً من السماح لهم بالتصويت لكامل أعضاء المجلس النيابي البالغ عددهم 128 نائبًا.
هذا التوجّه ليس تفصيلًا تقنيًا، بل يمسّ جوهر العملية الديمقراطية وحق المواطنة. فالمغترب اللبناني، شأنه شأن المقيم، هو مواطن كامل الحقوق، لا يجوز اختزاله أو التعامل معه كفئة ثانوية. والمساواة بين اللبنانيين، أينما وجدوا، هي قاعدة دستورية لا تحتمل التأويل أو التمييز. وعليه، فإنّ أي محاولة لتقييد حق الانتشار اللبناني في الاقتراع الشامل تشكّل خرقًا صارخًا للدستور وضربًا لمبدأ المساواة.
أثبتت التجربة أنّ المغتربين يشكلون رافعة وطنية لا غنى عنها. فهُم الذين ضخّوا في شرايين الاقتصاد اللبناني مليارات الدولارات على مدى عقود، وأنقذوا عائلاتهم وبلدهم من الانهيار الكامل. كما أنهم حملوا قضية لبنان إلى المحافل الدولية، في وقت تخلّت السلطة الفاسدة في الداخل عن أبسط مسؤولياتها. ومن هنا، يصبح حرمانهم من ممارسة حقهم الكامل في انتخاب ممثليهم جريمة سياسية مضاعفة، لأنّهم شركاء فعليون في حياة الوطن ومصيره.
ما يزيد خطورة هذا الملف هو أنّ تعطيل حق المغتربين ليس وليد الصدفة، بل يعكس إرادة سياسية واضحة. فالثنائي الشيعي، ومعه الدولة العميقة التي يقودها رئيس مجلس النواب نبيه بري، يتصرّفون كحُماة للنظام القديم وضامنين لاستمراره. وبري، الذي لطالما استخدم صلاحياته في تعطيل المؤسسات وفق مقتضيات مصلحته، يجاهر اليوم برفضه فتح صناديق الاقتراع أمام الانتشار اللبناني، بل يختصر موقفه بعبارة حاسمة: “على جثتي يمر تصويت المغتربين”. هذه المقاربة ليست مجرد موقف شخصي، بل تجسيد واضح لسياسة إقصاء منظمة، هدفها تحييد كتلة انتخابية ضخمة وواعية قد تطيح بالمعادلات التقليدية وتعيد رسم التوازنات النيابية.
من الناحية القانونية، حصر اقتراع المغتربين بستة مقاعد يتعارض مع نص وروح الدستور، ويحوّل العملية الانتخابية إلى مسرحية شكلية. فالمادة 27 من الدستور تنص بوضوح على أنّ “عضو مجلس النواب يمثّل الأمة جمعاء”، أي أنّ النائب لا يمثّل منطقة أو فئة بعينها، بل الشعب اللبناني ككل. وبالتالي، لا مبرر دستوريًا ولا منطقيًا لحرمان شريحة واسعة من المواطنين من حق اختيار كامل المجلس.
المفارقة أنّ بعض القوى التي لطالما تباهت بالانتشار اللبناني وبـ”قوة الانتشار” عادت اليوم إلى مربّع التواطؤ، ففضّلت مجاراة حساباتها الداخلية على حساب الدفاع عن حق دستوري واضح. هذه الازدواجية تكشف أن شعارات “حب الاغتراب” لم تكن سوى وسيلة للاستهلاك السياسي والإعلامي، لا التزامًا فعليًا بقضية المغتربين.
في المقابل، يصرّ رئيس الجمهورية جوزيف عون على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها ورفض أي محاولة للتمديد أو التأجيل، معتبرًا أنّ أي إخلال بهذا الاستحقاق يشكّل ضربة قاضية للعهد والدولة. وباشر سلسلة اتصالات مع رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والخارجية لتأمين كل ما يلزم لإجراء الانتخابات في وقتها. لكنّ السؤال يبقى: هل تكفي الإرادة السياسية الصادقة وحدها لمواجهة منظومة متجذرة تملك أدوات التعطيل داخل مجلس النواب؟
المجتمع الدولي يراقب هذا المسار بدقة. وأي خطوة باتجاه تأجيل الانتخابات أو إقصاء المغتربين ستضع لبنان في خانة الدول الفاشلة والمتخلّفة ديمقراطيًا، وتضاعف من عزلة السلطة أمام الخارج. فالتجربة السابقة أظهرت أنّ احترام المواعيد الدستورية هو المعيار الأول الذي يقيس من خلاله العالم جدّية أي دولة في الالتزام بمسار الإصلاح.
بناءً عليه، يصبح الموقف الوطني المطلوب اليوم واضحًا: لا انتخابات منقوصة، ولا حقوق مبتورة. فالمغتربون ليسوا زينة انتخابية ولا مقاعد رمزية، بل هم مواطنون كاملو الحقوق، ومن حقهم الطبيعي أن يشاركوا في انتخاب كامل المجلس النيابي. وأي انتخابات تُقصي الانتشار أو تحصره بستة مقاعد هي انتخابات ساقطة دستوريًا وأخلاقيًا، ولا شرعية لها.
على اللبنانيين جميعًا أن يقولوا بوضوح: لا شرعية لانتخابات بلا المغتربين، ولا دولة من دون مشاركة كاملة لأبنائها المنتشرين في العالم.