يوميات غزة في حضرة الموت

يوميات غزة في حضرة الموت

هل طلب الطعام يعني طلب الموت؟
متى جمعوا بين اللقمة والذل؟
متى كان الطعام يقدّم على طبق الهلاك؟
منذ متى صار على الجائع أن يجيب على سؤال يجلد وجهه: هل أنت مستعد للموت؟

على أرضيّة المساعدات… الموت لا يكون احتمالاً، بل واقعاً قائماً. ومع ذلك يَمثُل الكثير من أبناء غزة أمام قرارهم اليومي، واضعين خلف ظهورهم فكرة العودة موتى، هم لا يفكرون بغير الظفر بكيس طحين، أو كيلو سكر، أو خشبة تصلح كحطبة لإشعال النار – وذلك أضعف الإيمان. هم لا يناقشون احتمالياتنا المتمثلة بشكلها “العقلي”، ولا يدعون مثقال ذرة للشك في مرادهم، وربما يرون الموت، لكنهم لا يرونه غير ساخرين، كأنهم يخاطبونه: من أنت أيها الموت لتخيفني، وقد جئت من حياةٍ تغلّبت على شكلك، وازدرت عملك، إذ إنها أخذت طباعك، تاركةً الأعين شاخصةً، لتنسج في غزة معنى للحياة لا يشبه معنى الحياة في أي مكان آخر، ولا يناقض معنى الموت في أي فلسفة.

فيذهب الرجال، والشباب، والأولاد، وحتى بعض النساء، حاملين على مناكبهم حقائب فارغة، وفي أيديهم أكياسٌ بيضاء مطبقة، منتعلين الأرض – في كثير من الأحيان –
يفيضون من كل فجّ عميق، ليشهدوا كيس طحين لهم، ويطوّفوا بالموت كما يطوّف الموت بهم.

ينبطحون وقتاً طويلا، حتى تأخذ لعبة الرصاص حقها من أرواحهم القابعة تحت رحمة اليانصيب. ثم إذا ما دكّت المدفعيّة انطلقوا كأنهم يرون فجراً قد بزغ. فيسقط من لا يحتمل جسده الشظايا الملتهبة، ويركض من يستعدّ للمصارعة، تبدأ جولة الصراع حول المقطورة (الشاحنة الكبيرة) وفوق ظهرها، فيتقاذف الناس أجساداً وأرواحاً، ويتساقطون أرضاً متناثرين كقطع الزجاج، فلا ينتبه الآخر إلا على كيس، ولا يلتفت إلا على كيس، ولن يحمل إلا الكيس، وسيلوذ بكل الطرق لأجل الكيس. ويدافع المرء عن كيسه بروحه، فلا عجب إن رأيته يؤثره على رقبته أمام نصل سكين انتصب يهدده، ولا غرابة إن رأيت فتى يحتضن الكيس حتى يغلّفه بجسده، فتلك صَدفة الحبّار، وقوقعة الجائع الضعيف.

يعلو الصوت، تتعثر الأرجل وتتضارب، تتشابك الأيدي بالأرجل، وتطبق الأفواه والفكوك على اللحوم الحيّة، يتغبّر البحر الذي يبكي في مكانه، لا يزال الصراع قائماً، لا نصر لاثنين، إما أنت أو هو، فرصةُ الطحين لذلك الفرد الذي لا تسقطه الشظايا، ولا ترهبه السكاكين، ولا تؤلمه الكدمات، ولا يبالي إن كان سيهرس تحت ضخامة عجل المقطورة الهائجة.

لا تنتهي الجولة بذلك، فطريق العودة محفوف بالمخاطر، عليك أن تدرك طريقة العودة قبل أن يتسلى عليك الجنود، وعليك أن تتجاوز مناطق الخراب التي تبزق قطّاع الطرق، وعليك أن تمشي حاملاً نصرك الضخم القابع في كيس طحين على ظهرك مسافة طويلة. حتى إذا ما وصلت لك أن تكون ما تريد: لصّاً يستهوي لعبة الموت ليحظى بثروة باهظة، يتاجر بمعاناة شعبه. أو أن تكون همجيّاً رحيماً يأكل النصف ويبيع النصف الآخر ليمجّ سيجارة الأبطال على طريقة الحرب. أو أن تكون جائعاً بحق، ولا ترى في هذا الكيس غير عيون أطفالك المتغرغرة بدمعها، وحسبك من صخب العراك إخراس صوت الجوع.

ولكن هناك من لا يعود، فحينما تهدأ الأرضيّة، وتسكن الأغبرة، وتتساقط الصرخات كنصل منغرزٍ في خاصرة الصمت الزائف، ينفك الهرج متكشّفاً عن أجساد مرتخية غطتها الأغبرة والدماء، وداستها الأقدام أو فعصتها المقاطير، ولم يلتفت إليها أحد، ومات جوعها للأبد، وسكنتْ براكين الهموم في صدورها، وقرر أصاحبها – من دون أن يقرروا – أن يرتاحوا من هذا الشقاء – على الأقل – الآن، وهؤلاء أفضل حالاً من أولئك الذين وجدوا على أنفسهم الزحف بجراحاتهم النازفة، فلا خيار أمامهم غير المشي على الجراح حتى يجدون من يسعفهم، ومن منهم لا يملك من المال ما يملأ به عيون أصحاب التكاتك والعربات الذي يجرها الحمير فعليه أن يستمر بالزحف والزحف طويلاً. أما الموتى فيتركون طرحاء الأرض حتى يأذن الجيش لطواقم الإسعاف بالعبور بعد ثلاثة أيام في أقصر وقت.

ولا تسألني عمّن ذهب وعاد صفراً، فهو أشقى الناس، فيعود وكأنه يحمل العالم على كتفيه، يُطرق رأسه بالأرض، يجر خيبته، ويعاب في ذكوريته على الألسن، ويسلّي نفسه على الأمل الخائب، فلربما تدخل قوافل المساعدات مرة أخرى.

ويتبقّى صنفٌ لم يذهب ولم يأكل، ذلك الذي لا يرضى بأن يكون الصراع طريقة، والمقاتلة وسيلة، والموت فريضة، ولا يملك مالاً ليشتري، فينزوي قابعاً في زاويته الظلماء، لا ترصده كاميرا، ولا تراه الشمس. هو لا يستطيع أن يقتل ليأكل، ولا أن يقدّم روحه لوجبة طعام مؤقتة تكفي ليومين، ولا أن يمنح رأسه ليسلّي عليه الجيش، فيؤثر على ذلك لوعة الجوع، ويتردى في سكونٍ ممتد، حتى يبتلعه العجز هادئاً.

هذه هي طريقة “المساعدات”، فكيف لو لم تكن مساعدة، ماذا لو كانت عقبة؟ كيف سيكون شكلها؟
هذه هي “الإنسانيّة” فماذا تُرك للحيوانيّة؟
صدقوني قد نشير بأصابع اتهام كثيرة، على مصطلحات وأفراد كثر، لكنّها الحقيقة التي لا يمكن أن تغيّبها الشمس: إنّ العالم المتفوّق لا يذق طعم تفوقه إلا إذا أبقى على دونيّة الإنسان الآخر. فله أن يسحقه، وأن يبدي تعاطفه الوردي! وله أن يجوّعه ويرسل بقوافل المساعدات الإنسانيّة الطارئة! وله أن يخنقه بحياته، وأن يقدّم له أدب النعي في ندوات الإنسان الحضري. فماذا تقولون للغد إن سألكم عن طُهر القرن الحادي والعشرين؟