24 Sep 2025
Like this post
لطالما وُصفت السياسة بأنها علم، وفن، وأحيانًا لعبة قذرة. لكن الاستعارة الأصدق قد تكون أنها رقصة أقنعة. خلف الخطب الرنانة، والبلاغة المثيرة، والوعود السامية، تكمن حقيقة باردة: السياسة في جوهرها صراع دائم على المصالح. الاقتصاد يحدد الإيقاع، وما عداه—من حقوق إنسان، ودين، وتاريخ، وأخلاق، وحتى إنسانية—ليس إلا أزياء تُرتدى أو تُخلع بحسب مقتضى اللحظة.
المشهد السطحي مبهر. الزعماء يقفون على المنصات يرفعون شعارات العدالة والحرية والسيادة والتقاليد. الجماهير تهتف، الأعلام ترفرف، والرموز تُقدَّم كما لو كانت مقدسات. لكن خلف هذا العرض المسرحي، يكمن واقع آخر: المحرك الأساس للسياسة هو حسابات المكاسب. الدول تناور لتعظيم الأمن والمصالح الاقتصادية والنفوذ. التحالفات تُعقد وتُفك لا بدافع الولاء أو القيم المشتركة، بل لأن ميزان الأرباح والخسائر يفرض ذلك. ما يُعرض على أنه مبدأ ليس غالبًا سوى استراتيجية مموهة بلغة أخلاقية.
انظر إلى الانتقائية في استدعاء قضية حقوق الإنسان. يومًا تُرفع كأنها أساس الحضارة، وفي اليوم التالي تُهمَّش حين يكون منتهكها حليفًا استراتيجيًا أو شريكًا اقتصاديًا. حقوق الإنسان تكتسب أهميتها عندما تُضعف خصمًا، لكنها تُنسى عندما تهدد مصالح حليف. الخطاب يبقى نبيلًا، لكن القناع يخفي واقعية باردة.
السيادة تُعامل بالطريقة نفسها. تُقدَّم على أنها مقدسة حين يُهدَّد وطنٌ ما، بينما تنتهك سيادة الآخرين بالتدخلات والاحتلالات والعمليات السرية متى اقتضت المصلحة ذلك. القناع يتبدل وفق الشريك أو الخصم. في هذا المسرح، السيادة ليست مبدأً مطلقًا بل ورقة لعب تُستخدم أو تُلقى جانبًا بحسب الحاجة.
التاريخ والدين والأخلاق أيضًا أدوات في هذه الرقصة. يُستحضر التاريخ لتبرير مطالب أو سياسات، ثم يُلقى في الظل عندما يناقض المصالح الراهنة. الدين يُستخدم كراية تعبئة حين يخدم قضية ما، لكنه يُحجَّم عندما يعيق شراكات اقتصادية أو استقرارًا جيوسياسيًا. الأخلاق تُرفع كمعيار، لكنها تنحني بسهولة أمام النفط والأسواق والتحالفات العسكرية. أما المصلحة العامة ورفاه الإنسانية، فهي غالبًا مجرد زينة خطابية لا أساسًا للقرار السياسي.
ما يجعل هذه الرقصة ممكنة ليس براعة السياسيين وحدهم، بل أيضًا استعداد الشعوب للمشاركة. الناس يتبعون السياسيين لأسباب لا تخضع دومًا للعقل: الكاريزما، الولاءات القبلية أو الطائفية، وهم القوة، أو وعود الحماية. الجماهير تستجيب للأداء—للأقنعة من دون تفكيك الآلة التي تدير العرض. لا يُطلَب من الزعيم أن يكون ثابتًا، بل مقنعًا في اللحظة. الجماهير تتقبل القناع كحقيقة، حتى وإن ناقض قناع الأمس قناع اليوم. بهذا المعنى، السياسة ليست مجرد تلاعب من الأعلى، بل أيضًا استسلام من الأسفل.
المفارقة أن الناس يتوقون غالبًا إلى الصدق، لكن المسرح السياسي يكافئ الحسابات الباردة. السياسي الذي يكشف الأقنعة ويتحدث بلغة المصالح العارية نادرًا ما يُستقبل بترحاب؛ الجماهير تريد تصديق الروايات النبيلة. لذلك يتقن السياسيون فن التنكر: يتحدثون عن الحرية وهم يقصدون التجارة، يرفعون شعار العدالة وهم يسعون إلى النفط، يلوّحون بالأخلاق وهم يعنون الأمن. قوة القناع لا تكمن فقط في تصميمه، بل في استعداد الجمهور لتصديقه.
هذا لا يعني أن المبادئ بلا قيمة. قيمتها تكمن في كونها أقنعة، أي في اللغة والرموز التي تُبرَّر بها السلطة. لكنها أدوات إقناع، لا محركات فعل. خلف كل شعار مبدئي سجِلّ من الأرباح والخسائر، وهو الذي يحدد المسار لا الشعار.
إدراك السياسة كرقصة أقنعة ليس دعوة لليأس، بل للوضوح. إنه دعوة لرؤية ما وراء التنكر، للسؤال: أي مصلحة تُخدَم كلما رُفِعت راية القيم؟ وكيف تُطوّع المبادئ لتوافق الاقتصاد والمصالح الاستراتيجية؟ من دون هذه الرؤية النقدية، سنظل أسرى موسيقى الخطاب، نرقص مع السياسيين وهم يتنقلون من قناع إلى آخر. ما دام الناس يخلطون بين القناع والوجه، سيبقى الساسة يرقصون بثقة، واثقين أن الجمهور يفضل الوهم على الحقيقة.