رحلة نازح من غزة

رحلة نازح من غزة

أنستني رحلة النزوح طريقة القلم، ولا أدري إن كانت تسميتي للنزوح بـ”الرحلة” تسمية موفّقة؛ فهي كل شيءٍ عدا رحلة، “إنها طبخة لا ملاعق لنا فيها”، صدق بذلك الوصف عجوز على طريق النزوح.

فكيف لنا بنشل لقمةٍ من لحمنا يتشارك في نهشها وحشٌ يحرق كل ما لنا من معالم، وذكريات، وشوارع ومسميات. وسائق شره يتعامل مع آلامنا وجراحاتنا كبضاعة للنقل، وفرصة للغنى، يطالبنا بميزانيّة ستة أشهر. وينضم للأكلة أناسٌ يظنون أنّ سترنا مادةً للتكسّب، فالخصّ عندهم بسعر الشقة، والشقة -إيجارا- بسعر الجنّة!

تبدأ الحكاية بهربٍ طويل على طريق نجاة مزيّف، حيث تبدأ طائرات “الكواد” بالنعق الحارق فوق رأسك، وتلحق بالركب دبابات مفخخة، تفجر نفسها بأشيائك. وتعلم بأنه لا فرصة للصمود أمام غول يتسلى على حبات عيونك، وقطع جسمك الطري. فيدفعك للخروج، فارشاً لك من جهنم منطقة للنزوح. تأخذ نظرتك الأخيرة على بقايا المكان، تعانق آخر الصحب، تلتفت لآخر الطيور المقهورة، تلامس آخر المباني المصلوبة، تعبئ صدرك بهواءٍ أخير يمكنك تذوقه لا شمّه، وتمضي في طريق كان كابوسك! الآن أنت في وجهه، وهو في وجهك: “اتجه جنوب الوادي”!

تشتري (المواسير) من رجل جعلته الخردة معلّماً يحكم على بضاعة جعل الخراب منها حاجة. تقصد بذلك أوتاداً لقماش يأخذ دور المسكن والمنزل. تشتري مرحاضاً/ كرسيّاً للحمام بخمسة أضعاف ثمنه، وتبحث جاهداً عن قطع (السباكة) وملحقات التركيب التي شحّت؛ لتصنع حماماً سأخبرك عنه. تحزم قطع الاسفنج المتسخة التي صارت فراشك يا صديقي. هل أنت جاهز الآن لتدخل بقدميك المتعبتين عذاب الدنيا، وتنزح؟ ليس بعد، عليك أن تتفق مع أرباب الطريق، أن تبحث جاهداً عن سائق ينقل لك أغراضك، ترجوه ليصدقك الميعاد، تملأ له جيبه بعشرة أوراق زرقاء من فئة الـ 200 شيقل، لتقرّ عيناه الغارقتين بلعاب جوعى المال.

تنضم إلى خيط النازحين الذي يغيّب خيط الأمل، وتحملق في أفقٍ من مركبات الفراش المتجهة جنوباً، أفق يحجب عنك أفق الغد، تنسل العربات والسيارات كدم متدفق ينزف من رقبة غزة التي صارت خلفك، غزة التي اختزلتَ بها خسائرك كلها، فما عادت تؤثر بك من بعدها أي خسارة، غزة التي احتكرتْ عمرك، وبصر عينك، وأحكمت قبضتها على عضلة قلبك، حتى ما عاد باستطاعك أن تنبض كما السابق.

تراقب عن يمينك بحراً أزرقاً لا تعرف إن كان موجه يقلب أحزان المدينة أم يجددها، تصطف على خطّه معامل تحوّل من الخراب شيئاً للحياة، فالأثاث يصير حطباً، والبلاستيك المنصهر يصير سولاراً. وعلى يسارك حطام المدينة، أبنية جاثية على ركبها، وخلفك غزة يا صديقي، وأمام عينيك مجهول تأخذك إليه الشياطين من يدك.

الشارع مزدحم بالسيارات التي يحمل فيها الناس كل ما لهم، مراحيضهم، أخشابهم، أوتاد الخيام التي أكلها السوس، قالونات الماء، الفراشات، الحقائب، والخيبة التي تكبر كلما حاولوا طيّ جدران المنزل والنزوح بها، يعلق فوق الأغراض أطراف الناس التي ما عاد لها على الظهر متسعاً. يأخذون كل ما يستطيعون في محاولة جاهدة لقطع الطريق على لصوص المنازل، أو في حركة وقائية من ضياع الأغراض في حطام البيوت التي لاشك ستسقط. إنهم يدوسون آخر الأمل تحت أقدامهم كأعقاب السجائر، أي أمل هذا الذي سينجح أمام نزوح متكرر ظنّوا أنه انتهى وتلاشى إلى الأبد؟

ترى بعينيك الذابلتين كيف يسحق الطريق أناس ما كان لها أن تُسحق، ترى كيف تمشي المأساة على وجوههم مشي الكلاب في المغارات، يحملون خيمهم على ظهورهم ويمشون، يسحبون أغراضهم على عجلات بلا إطارات، يتركون خلف ظهورهم أثراً للعودة، ويخمشون بها بـ’جاحة’ الطريق. ماذا ستكتب عنهم يا “ماركس” إن كنت موجوداً؟ هؤلاء طبقة لم يتبقى فيهم شيئاً ليسحق. لا أموال في جيوبهم، ولا تعويذة في صدورهم، ولا يداً تكفّ عنهم فرعون المنكبّ في قتلهم.

تصل إلى اللامكان، تفترش رملاً، وتلتحف سماء واسعة لا ترى فيها النجوم، ولا ضوء القمر، كل ما تراه هو آخر الوجوه التي رأيتها في غزة، ترتسم أمامك لتبكي بحرقة كالصغار. تبدأ بلمّ نفسك، وبحزم أساك في كيس عمرك، وتلتفت إلى مكانك البور الذي عليك أن تجعله مسكناً: احفر عميقاً في الأرض بئراً ليصير مصرفاً لفضلات المرحاض، ازرع مرحاضاً، غطّه بأي قماشة للستر لا للخصوصيّة. انصب خيمتك اللعينة، فهي نعمة لا يجدها الكثير. خذ غالونك واصطف على طابور الماء الطويل، اتسخ أكثر وليس لك أن تستحم، مهلاً حتى يصير الماء وفيراً يملأ ثلاثة غالونات على الأقل. جد لغة تحاور فيها الكلاب، والنمل، والسحلية، فهي شريكتك في جسدك وأغراضك. أحسنت صرت نازحاً!

هي معاناة متكررة، ومكلفة، وخانقة، تضيق فيك البلاد، وتضيع فيك المعاني، ويتبدل فيها حالك، لكن صدقني هي معركة الوجود وغريزة البقاء… قد تسأل ما جدوى الحياة في حياة تشبه الحياة التي أحدّثك عنها، لكنّها معركتنا الأساسيّة، وانتصارنا الحقيقي في وجودنا يا صديقي. قد يكون حيّزنا من الوجود هامشيّاً، وحصتنا من العالم خيمة، وذكرنا في الفضاء خبر، لكنّنا رماح في خاصرة الحياة حتى تقرّ لنا الحياة. يا صديقي تعدينا مرحلة العقاب صدقني، إنهم لا يفكرون إلا في دثر وجودنا، وتذويب آخر ما لنا، ولكن كيف لهذا أن يصير، وطيور البلاد في كل فجر تصلّي على رؤوس الراحلين صلاة العودة في محراب الخراب؟