ذاكرة اللجوء السوري بعد سنوات من المنفى

ذاكرة اللجوء السوري بعد سنوات من المنفى

الخامس عشر من آذار 2011، لم تكن أولى الأصوات التي انطلقت حينها في دمشق إلا كصيحة الحبلى، تنذر بحزم الأمتعة، فالأسد المتربع على عرشه الملطخ بالدم قالها وأرسلها بفوهة الدبابات: الفناء لمن يبقى.

لاجئون، تلك هي الصفة التي سترافقهم عقداً ونصف، وهي التي ستحدد إطارهم الاجتماعي، فما هي إلا غمضة عين حتى يرى الرجل نفسه يقف في طابور مخيمات اللجوء.

يزداد الوحل التصاقاً بقدميه، وتنغرس الأحذية في الأرض كأنها تأبى المضي. الطابور لا ينتهي، لا يتحرك، كأنه دائرة تدور في ذاتها بلا مخرج. وتتردد الهمسات إلى المسامع كأنها تخشى أن تبوح بالحقيقة: أترانا نجد ما يكفي؟ نخشى أن ينفد قبل أن نبلغ دورنا.

لم يكن في الأفق أي بناء، أي مدرسة، أي جدران يزينها ضجيج الصغار.
النيران توقد على الأطراف، والنساء حولها تسعى، يذبن البرد بأنفاسهن، ويضغطن أطفالهن إلى صدورهن كمن يحتضن آخر ما تبقى له من الدنيا.
يرافق المسامع صوت القطرات المتساقطة من سقف الخيمة المهترئة، حيث تتجمع المياه، ثم تسيل قطرة تتردد لحظة قبل أن تسقط في دلو ملقى تحتها، كأنها تسقط في بئر لا قرار له. صوت لا يكسر الصمت، بل يغرقه عميقاً، يتسلل إلى العظام، يتكرر حتى يتشابك مع نبض القلب.

لكنه لم يكن أبشع من صوت الفيتو في مجلس الأمن، فيطيل في عمر الجزار، فاسحًا له المجال لارتكاب مجزرة أخرى. ذاته المجتمع الدولي الذي يقدم الإعانات؛ إعانات تبقيهم على قيد الحياة لكنها لا ترم العظم، فقط ما يبقيهم على قيد الحياة، ويقامر على مستقبلهم من يقطن في فندقه، يؤنق بدلته الرسمية جدًا لحضور حوار أبرد من أعمدة الخيام.
واللاجئون يحسبون أعمارهم في المنفى من تشققات كفوفهم التي أصبحت كجدران زنزانة انفرادية.

الثامن من كانون الأول 2024، في الخيام تصدح أصوات الإعلام الميداني. والجدة في الركن الأدنى تقرأ بخشوعٍ آخر ما قد قال الله، يزاولهم عتم الشك حتى يذهب آخر قمر في حكم الطاغية.
لم يعد أحد يشعر بالبرد. قُطع حبل المشنقة أثناء تنفيذ حكم الإعدام.

واليوم عرسال التي اقتلعت الخيام، وكانت كرأس السهم الذي خرج من كنانته نحو الدريئة، وحتماً ستتبعها كل مخيمات الألم.
لا يهم من انتصر بقدر ما يهم من هُزم. أسرع كبار السن يتفقدون مفاتيح بيوتهم بلهفة، يتأملون فيها وقد زرعوا فيها صور دورهم القديمة قبل أن تتهدم، وتذكرهم بقضيتهم حين يغمرهم اليأس.
لم تكن تعني لهم جنيف واحد واثنين، ولا يعرفون أين تقع سوتشي، ولا يلفت انتباههم قرار 2254 الذي يتحدث عن الحل وإجرام الأسد، فقد عاشوها عيانًا، وكانوا جيلها وشهودها وضحاياها. 
ولم يكن لهم دَيْن في هذه الدنيا لأحدٍ سوى لتلك الخيمة اللعينة التي تحرق نفسها صيفًا كي تقيهم حر الشمس، وتتقطع من أجلهم شتاءً، وتعيد المرأة الصابرة خياطتها.

اليوم يعودون إلى أرضهم بلا استقبال حافل كحفاوةٍ بمعارضة شمطاء رعينة، أمضت رحلة لجوئها في مولات دبي وتروح عن نفسها بموسم الرياض، ولا كاستقبال فنان اشترى وباع بالقضية تحت كل المسميات.
يعودون في شاحنات نقل محملة بالخيمة ذاتها، يتمتمون عن الزهور وألوانها التي سيزرعونها في فناء خيمتهم الجديدة. والأطفال في الخلف، على ظهر الأمتعة، يسأل بعضهم بعضًا: هل حي آبائنا وجدودنا بعيد من هنا؟ هل نحتاج وقتًا طويلًا؟

قد عاشوا ولم يروا أرضهم، وكبروا ولا يعرفون طعم المنزل ودفء الجدران. لكن ما يعرفونه هو أنهم سيبنون كل يوم حجرًا حتى تعود الحياة إلى سيرتها الأولى، ويثبتوا جذور بقائهم من الآن وإلى الأبد.