الاقتصاد الرقمي فرصة لبنان الضائعة

في زمنٍ انهارت فيه البُنى الإقتصادية والمؤسّساتية في لبنان، من أزمة 2019 الماليّة، مرورًا بجائحة كورونا، وصولًا إلى تفجير مرفأ بيروت. وجد آلاف الشباب أنفسهم أمام انسدادٍ في سوق العمل التقليدي، فاندفعوا نحو الفضاء الرقمي.

هناك، تشكّل جيلٌ يُنجز عمله من خلف الشاشات، عن بُعد، ومن أي مكان يختاره. لكن ما وُلد من رحم الأزمة لم يجد بعد سياسة عامة أو اعترافًا رسميًا يوازي أهميته. ففي 24 نيسان من هذا العام أقرّ مجلس النواب تعديلات على قانون العمل لتشمل العمل عن بُعد، غير أنّ التنفيذ بقي معلّقًا، والأهم أنه غير كافٍ لآلاف اللبنانيين العاملين رقميًا.

يرصد التقرير أصوات هذا الجيل ويضعها في سياقها: اقتصاد رقمي موازٍ بلا حماية ولا اعتراف، ودولة تتفرّج من دون تخطيط أو مواكبة أو حماية.

نجاحات فردية في مواجهة الانهيار

من بين هؤلاء الشباب، يروي علي (24 سنة) كيف بدأت تجربته خلال دراسته في إسبانيا حيث كان يمضي ساعات في مساحات عملٍ مشتركة مهيّأة للإنتاج: إنترنت سريع وبيئة مهنية محفّزة. يصف عبر “نقد”: “هناك تعرّفت على أشخاص من أنحاء العالم”، ومن تلك الشبكات بدأ يُبرم صفقات بيع عن بُعد. بعد عودته إلى لبنان، يعمل من منزله ويتقاضى عمولة عن كل صفقة، لكن يوضح: “ظننتُ أولًا أن المكسب الأكبر مالي، لكن تبيّن أن الشبكة الدّولية هي مكسبي المهني الأهم”.

وعلى الرغم من إدخاله عملاتٍ أجنبية إلى البلد، يُشير إلى غياب الاعتراف الرّسمي: “في إسبانيا كنتُ أصرّح عن دخلي ويُسجَّل عملي كمبيعات، أمّا هنا فكأنني غير موجود مهنيّاً”. وبرأيه: “المطلوب نقابة أو إطار مهني للعاملين عن بُعد، وتسجيل رسمي، ومساحات عمل مشتركة كبيرة، فهي منجم العلاقات والتشبيك”.

قصة علي ليست استثناءً. مايا (27 سنة) بدأت العمل عن بُعد خلال الحجر الصّحي في العام 2020 حين أخبرتها صديقتها أن هناك جمعيّة في كندا بحاجة إلى معلّمات لغة عربية. وجدت في التجربة فرصةً حقيقية: دروس عن بُعد لطلاب عرب وأجانب، خبرة، وعلاقات. كما تؤكّد مايا أنّ “كورونا كانت الحافز الأول، والأزمة المالية عاملًا ثانويًا”. لكن التحديات قاسية، فارق التوقيت يفرض حصصًا ليلية، والانقطاع المفاجئ للإنترنت يضعها في موقف مُربِك أمام طلابها، وتختم: “لسنا نطالب بالكثير، فقط إنترنت سريع وبتكلفة معقولة”.

من جهته، عمل جاد (29 سنة) بنظام هجين مع شركة لبنانية سابقًا. لكن بسبب الأزمات المذكورة، انتقل إلى العمل الكامل عن بُعد. يقول: “الكثير من الشركات استغلّت الوضع خلال الأزمة وخفّضت الرّواتب، وأعرف كثيرين أيضًا لجأوا للعمل مع الخارج”. ويشرح أن “الدافع هو مرونة وإنتاجية أعلى”، فأحيانًا يُنجز مهامه بثلاث ساعات بدلًا من البقاء في مكتب فارغ حتى الخامسة. لكن العائق الأساسي لديه كان واضحًا: “حيث أسكن لا تتجاوز سرعة الإنترنت 3 أو  4 ميغابايت أحيانًا، ما يعطّل رفع ملفاتٍ ضرورية”. لكنّه، وعلى الرغم من كل ذلك، لا يعلّق آمالًا على الدولة: “وصلتُ إلى قناعة أن شيئًا لن يتغيّر، لديّ صفر ثقة بأن الدولة ستطوّر القطاع، لذا أعتمد على نفسي”.

ثلاث شهادات مختلفة تؤكّد أن العمل عن بُعد أنقذ أصحابها من الانهيار، لكن هشاشة البنية تُبقي نجاحاتهم فردية.

خلف هذه المؤشّرات، ما حجم السوق فعليًا؟

قطاع ينمو خارج الرادار

يفيد الصحافي والخبير الاقتصادي منير يونس في حديث خاص لـ”نقد” بأن “لا أرقام رسمية دقيقة تُظهر الحجم الفعلي لسوق الخدمات الرقمية، ما يُسجَّل رسميًا في 2023 لا يتجاوز 140 مليون دولار”، بينما يؤكّد أنّ “الواقع مُختلف تمامًا، فالقيمة الحقيقية، سواء المُراقَبة أو غير المُراقَبة، قد تكون تقديريّاً بين مليار ومليار ونصف المليار دولار سنويّاً، نتيجةَ ما يُقدّمه العاملون عن بُعد وما يمرّ خارج الجردة الرّسمية”.

ويُضيف: “لدينا شركات لبنانية يعمل فيها المئات في خدماتٍ رقمية موجّهة للأسواق العالمية، وآلاف المستقلّين. هذه ليست هامشيات، بل ديناميّة قابلة للتحوّل إلى رافعة اقتصادية إذا أُديرت جيدًا”.

مبادرات محّلية تسدّ الفراغ

في ظل الغياب الرسمي، برزت مبادرة Zahle Connect كمساحة العمل المشتركة الأولى في البقاع. أسّسها ساري ضاهر وسيلين شلهوب. تقول شلهوب في حوار مع “نقد”: “رأينا حاجة كبيرة لدى شباب في المنطقة يعملون عن بُعد ولا يملكون بيئةً مناسبة في منازلهم، فجمعنا بين فكرة المكتبة ومساحة العمل المشتركة، لتوفير بيئة مهنية بديلة للمقاهي”. وتُضيف: “العقبة الأكبر ذهنية، كإقناع الناس بأن هذه المساحات تصنع فرقًا حقيقيًا في الفرص والعلاقات”.

يقصد المكان عاملون مستقلّون، أصحاب مشاريع ناشئة أونلاين وطلّاب، ومع ذلك لم تتلقّ المبادرة دعمًا من الدولة أو البلدية.

“لا نريد دعمًا ماديًا، بل شراكة واعتراف وتعاون”، تقول شلهوب، مضيفةً أن “الجهات الرّسمية لا تسوّق للكفاءات الرقمية اللبنانية، وهذه خسارة وطنية”. تُشير أخيرًا إلى أن “الفارق بين بيروت والمناطق الأخرى ليس فقط في غياب مساحات عمل مشتركة، بل في إدراك أهميتها كأداةٍ تنموية لا كتشغيلٍ تجاري فحسب”.

كي تتحوّل الظاهرة إلى قطاع

ما يتشكّل محليّاً يبقى محدود الأثر ما لم تُترجم الجاهزية الرقمية على نطاق

وطني. والمفارقة أن المستخدم حاضر بينما البنية غائبة.

على المستوى الوطني، تُشير بيانات تقرير Digital 2025: Lebanon إلى أن نسبة مستخدمي الإنترنت تبلغ 91.6٪ من السّكان. فماذا يُمكن فِعله؟

يوصي منير يونس هنا بثلاث خطوات: “جَردة دقيقة للقطاع، حكومة إلكترونية فعليّة، وتوفير بنية تحتية رقمية شاملة تُثبّت الأساس الذي يقف عليه العاملون عن بُعد”.

في تشرين الأوّل من العام 2023، أعلنت الدّولة عن استراتيجية للتحول الرقمي في لبنان حتى العام 2030، لكن التنفيذ بقي معلّقًا. وفي مقابلةٍ مع صحيفة “ذا ناشيونال” في نيسان الماضي، رأى وزير المهجّرين ووزير الدولة لشؤون تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي كمال شحادة، أنّه “بميزانية تتراوح بين 30 و50 مليون دولار يُمكن إطلاق هوية رقمية وطنية، ورقمنة المدفوعات، وبناء البنية القانونية والتقنية للذكاء الاصطناعي”، معتبراً أن المبلغ كافٍ لتحديث الخدمات الحكومية الأساسية.

الفكرة واضحة على الورق، لكن النتائج غائبة. يعلّق الإقتصادي منير يونس ضمن حديثه لـ”نقد”: “على الدولة أن تبدأ بنفسها، الحكومة الإلكترونية هي قاطرة. فعندما تُرقمِن الدّولة خدماتها، تُنشّط الطلب على شركات القطاع الخاص وتخفّف البيروقراطية والفساد”.

ويربط يونس بين تعثّر الحكومة الإلكترونية وضعف السوق الرّقمي، “فرقمنة الحكومة مشروعٌ مطروح منذ أكثر من 15 عامًا ولم يكتمل بفعل الأزمات”. ويضيف: “لو تمكّنا من تحويل الحسابات المتفرّقة الفردية للعاملين عن بُعد إلى كيان منظّم، يمكن عندها أن نخلق من هذا القطاع رافعة اقتصادية وطنية حقيقية”.

دروس من الخارج وسيناريوهات المستقبل

بالنسبة لدول صغيرة نجحت بتطوير قطاع رقمي على الرغم من تحديات مُماثلة، يوضح منير يونس: “تقدّم ليتوانيا نموذجًا واضحًا، هناك نحو 95٪ من الخدمات الحكومية رقمية، وحوالي 87٪ من السّكان يستخدمونها، وأكثر من

95٪ من الشركات تعتمدها”. ويتابع: “صحيح أنّهم بدأوا منذ التّسعينات، لكن التقنيات الحالية تسمح لبلد كلبنان بتدارك الزمن”.

ماذا نستفيد منها، وماذا يجب أن تقوم به الدولة؟ بحسب يونس على الدولة “توسيع شبكة الألياف الضوئية على مستوى لبنان، وهذا مشروعٌ كان مطروحًا وتوقّف، لكن الآن يجب تأمين تمويل سريع له لأنه استثمار مُربح. ترقية شبكات الجيل الخامس تدريجيًّا، فنحن لا نزال غالبًا على الجيل الرابع وأحيانًا الثالث”.

ويشدّد يونس على أن “لبنان قادر على أن يُصبح منصّة رقمية خلال بضع سنوات إذا تحرّكت الدولة الآن، لكن استمرار الغياب يعني المزيد من التخلّف الرقمي وهجرة الكفاءات”.

جيل الأونلاين ينجح على الرغم من كل شيء، يبني سمعةً عالمية للكفاءات اللبنانية ويثبت أن رأس المال البشري لا يزال أثمن ما نملك. لكن الدولة، الغارقة في البيروقراطية والأزمات، تتصرّف كأنها غير معنيّة. غياب السياسات الوطنية والبنية الداعمة يُبقي قصص علي ومايا وجاد وأمثالهم معزولة، بدلاً من أن تتحوّل إلى قطاعٍ منظّم يشكّل رافعةً اقتصادية حقيقية.

أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان.