الصين خصمٌ هادئٌ في حرب الرسوم

في صباح الثاني من نيسان 2025، كتب الرئيس الأميركي دونالد ترمب عبر منصته “تروث سوشال”: “إنه يوم التحرير في أميركا”، مرفقًا بصورة للائحة جديدة تتضمّن تعريفات جمركية على واردات من عدد من الدول، في مقدمتها الصين. وعلى الرغم من أن بعض التفاصيل في المنشور لم تكن دقيقة، فإنها مثّلت شرارة لموجة جديدة من التصعيد التجاري بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم.

ففي حين أعلنت الولايات المتحدة عن فرض رسوم جمركية بنسبة 34% على السلع الصينية، ردّت بكين بعد يومين فقط بإجراءات مماثلة، إذ قررت وزارة المالية الصينية فرض رسوم بالنسبة نفسها اعتبارًا من 10 نيسان 2025 على عدد من المنتجات الأميركية، من أبرزها فول الصويا، السلعة الزراعية الأكثر رمزية في العلاقة التجارية بين البلدين.

يُعد فول الصويا أحد أهم مفاصل التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة. فالصين تُعدّ أكبر مستورد عالمي لهذه السلعة، إذ تستحوذ على نحو 61% من إجمالي فول الصويا المتداول في الأسواق العالمية، بينما تمثل السوق الصينية ما يزيد عن نصف الصادرات الأميركية من هذا المحصول. في العام 2024 وحده، استوردت الصين فول صويا أميركي بقيمة 12.6 مليار دولار، قبل أن ينخفض الرقم إلى الصفر مع اندلاع جولة الرسوم الجمركية الجديدة.

وبحسب الجمعية الأميركية لفول الصويا، فقد توقفت الصين كليًا عن شراء فول الصويا الأميركي اعتبارًا من أيار 2025، ما مثّل ضربة قاسية للقطاع الزراعي الأميركي الذي بُني على مدى أربعة عقود لتلبية الطلب الصيني المتزايد.

الأثر الاقتصادي لهذه الخطوة كان مدمرًا للمزارعين الأميركيين. فمع غياب المشتري الصيني، انهارت أسعار فول الصويا إلى مستويات لا تغطي حتى تكاليف الإنتاج. مزارعون مثل “رون كندريد” من ولاية إلينوي، الذين يزرعون آلاف الأفدنة من الذرة وفول الصويا، عبّروا لصحيفة وول ستريت جورنال عن قلقهم العميق من الانهيار الوشيك للقطاع، مؤكدين أن “الاقتصاد الزراعي الأميركي سيشهد انهيارًا كبيرًا إن لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الصين قريبًا”.

إزاء هذا الوضع، حاول ترمب تهدئة المزارعين، مؤكدًا أن خسائرهم مؤقتة وأن الحكومة ستعوّضهم من العائدات المتأتية من الرسوم الجمركية التي وضعت من قبل ادارة ترمب. وتشير التقديرات إلى أن المساعدات الحكومية للمزارعين قد تصل إلى 50 مليار دولار، لكن هذه المساعدات تواجه عقبة سياسية كبرى في الكونغرس بسبب الانقسامات الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين التي أدت إلى الإغلاق الحكومي، فضلًا عن أن هذا الدعم – حتى لو أُقرّ – سيبقى حلاً مؤقتًا لا يعالج جذور الأزمة.

من الناحية السياسية، لا يمكن النظر إلى فول الصويا بوصفه مجرد سلعة زراعية، بل أداة ضغط استراتيجية. فالصين تدرك أن المزارعين الأميركيين يشكلون قاعدة انتخابية أساسية ، وبالتالي فإن الضغط عليهم ينعكس مباشرة على المشهد السياسي الداخلي في الولايات المتحدة. من هنا، تحوّل فول الصويا إلى ورقة تفاوضية بيد بكين تستخدمها لإجبار واشنطن على تقديم تنازلات في ملفات أخرى.
 
غير أن المسألة لا تقف عند حدود المساومة. فكما يقول كاميرون جونسون، الشريك الأول في شركة Tidal Wave Solutions، فترى الصين أن الولايات المتحدة أصبحت في الوقت الراهن موردًا غير موثوق، إذ يمكنها أن توقف تصدير فول الصويا أو الغاز الطبيعي أو أي مواد أخرى في أي لحظة، تمامًا كما تفعل حاليًا في ملف الرقائق الإلكترونية. إن إقدام واشنطن على قطع صادراتها من فول الصويا إلى الصين بشكل مفاجئ سيكون مدمّرًا، خاصة إذا لم تمتلك بكين بدائل جاهزة أو وقتًا كافيًا للتعامل مع النقص.

يُعد فول الصويا ركيزة أساسية من ركائز الأمن الغذائي الصيني، والاعتماد الكامل على الإمدادات الأميركية منه، في ظل شخصية سياسية متقلبة مثل دونالد ترمب، يشكّل خطرًا كبيرًا ويجعل الأمن الغذائي الصيني رهينة لقرار أميركي. ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن تسعى الصين لتقليص وارداتها من فول الصويا الأميركي والبحث عن بدائل مستقرة، حفاظًا على مصالحها الاستراتيجية واستقلال قرارها الاقتصادي.

الصين اليوم لا تبدو في موقع الضعف. فبدائلها جاهزة ومؤمّنة عبر شراكات قوية مع البرازيل والأرجنتين، اللتين أصبحتا الموردين الرئيسيين لفول الصويا إلى السوق الصيني. هذا التحول البنيوي في سلاسل الإمداد يعني أن حتى لو انتهت الأزمة لاحقًا، فإن استعادة السوق الصيني لن يكون أمرًا سهلًا بالنسبة للمزارعين الأميركيين، إذ إن الثقة التي فقدت لن تعود بسرعة.

على المدى البعيد، تُظهر هذه الأزمة أن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين تجاوزت مجرد أرقام ونسب تعريفات، لتتحول إلى معركة على الثقة والمكانة والاعتماد المتبادل. فالصين، التي بنت استراتيجيتها الاقتصادية على تنويع مصادرها وتأمين احتياجاتها الحيوية، تسعى لتقليل ارتباطها بالاقتصاد الأميركي، في حين تجد واشنطن نفسها أمام تحدٍّ داخلي يتمثل في الحفاظ على توازن بين حماية المزارعين وضمان عدم تراجع مكانتها في التجارة العالمية.

ختامًا، يمكن القول إن “حرب فول الصويا” ليست سوى انعكاس لصراع أوسع بين نظامين اقتصاديين يسعيان للهيمنة على مفاصل الإنتاج والتجارة العالمية. وبقدر ما تمثل ضربة مؤقتة للمزارعين الأميركيين، فإنها تكشف أيضًا عن تحوّل عميق في النظام الدولي، إذ لم تعد الصين في موقع التابع الذي يتلقى، بل في موقع اللاعب الذي يملك القدرة على الردّ والتحدي، بثقةٍ وهدوءٍ محسوبين.