1 Nov 2025
Like this post
كنت في العشرين من عمري حين وجدت نفسي في قلب مسرحية كبرى لم أخترها.
عام 2010 كان يفتح أبوابه على سنوات ستقلب كل شيء في سوريا. كنت أجلس في مقعد متواضع في المسرح القومي بطرطوس، أراقبُ العرض المسرحي وأشعر أنني أتنفس شيئًا أوسع من حدود المدينة الصغيرة. بعد انتهاء العرض قرر معظم الحضور من مخرج العمل إلى الممثلان والنقاد مع بعض الكتاب المهتمين بمجال المسرح والأدب أن ينزلوا إلى مقهى شعبي يقع على الكورنيش البحري وغير بعيد، اسمه سبيرو.
سبيرو لم يكن مقهى عادياً بل كان بيتًا عربيًا قديمًا، بأبوابٍ خشبية ونوافذ تطل مباشرة على البحر. الجدران مشبعة برطوبة المكان، والأرضية مرصوفة بحجر قديم، والبحر قريب إلى حد أن صوته كان يتداخل مع أصوات الزبائن. لم يكن المكان يستقبل نساء، كان مقهى رجاليًا صرفًا؛ أراكيل مصطفة، دخان يملأ الهواء، طاولات خشبية مشبعة برائحة القهوة والملح البحري.
جلست بينهم. كنت الامرأة الأولى التي تجلس في ذلك الفضاء! وهنا تشكلت راية تمردي الأولى، لم يكن الأمر مجرد مغامرة شبابية، بل كان إعلانًا صغيرًا عن وجودي المختلف. كنت أختبر حريتي ونسويتي في لحظة واحدة، كأنني أقول للمكان والرجال من حولي: “أنا هنا. ولن أختفي”.
في زاوية المقهى، كان هناك مسجّل صغير، صوته متداخل مع ضوضاء الكراسي والأكواب. أحيانًا يصدح صوت نصري شمس الدين بأغنية “وقفلي خليني بوس”، فتسري في المكان خفة لم نعهدها. الرجال يضحكون، يتمايلون قليلًا مع اللحن، وتبدو الأغنية كأنّها فسحة زمنية منسية من أعراس الساحل وأفراحه. لكن ما كان يطبع الذاكرة أكثر هو صوتُ فيروز. أغنيتها “إذا رجعت بجن” كانت تخرج فجأة من المسجّل، لتلتقي بموج البحر وتختلط معه. لم تكن مجرد أغنية؛ كانت نَفَس طرطوس وجزءً من هويتها. النساء في المدينة كنّ يرددنها في بيوتهن، والرجال يسمعونها في المقاهي. فيروز في الساحل ليست مطربة فقط، بل هي صلة روحية بالمكان. كنت أستمع وأشعر أنّ الأغاني تمنحُ اللحظة ملمسًا آخر. الحرية لم تكن مجرد فكرة بل كانت موسيقى تتسرّب مع دخان الأركيلة وصوتِ الموج.
طرطوس 2010
طرطوس في تلك الفترة بدت هادئة مقارنة بدمشق وحلب، لكن تحت السطح كان كل شيء يغلي. الشباب يتحدثون عن قلة فرص العمل، عن الرواتب الهزيلة، عن الفساد الذي يلتهم كل شيء. كنا نسمع أخبار ربيعَ تونس ومصر، نقرأ شعارات الحرية على مواقع الإنترنت، ونسأل أنفسنا إن كان التغيير ممكنًا هنا أيضًا. في سبيرو، كانت النقاشات تدور بلا انقطاع؛ رجل يتحدث عن سعر الخبز الذي ارتفع، آخر يسخر من المسرحية التي شاهدناها للتو، شاب متحمس يناقش السياسة بصوتٍ خافت. وأنا كنت أجلس صامتة أحيانًا، وأحيانًا أشارك. كنت أتعلم أنّ الحرية تبدأ من الجلوس في المكان غيرِ المخصص لك، من الحضور في فضاء يرفضك لكنهُ يتغير بوجودك.
“من الأُسرة يبدأ الوطن بلا حرية داخلية طليقة للإنسان لا أمل سوى باستمرار العبودية وهيمنة الأقوى والمستبد”.
حيدر حيدر، شموس الغجر
هذا الاقتباس من ابن الساحل، الروائي حيدر حيدر، كان يصف تمامًا ما أشعر به. الحرية ليست شعارًا، بل هي ممارسة يومية تبدأ من الجسد والصوت، من قرار بسيط بأن تكون حيث لا يتوقعك الآخرون.اليوم، وأنا أكتب عن تلك اللحظة، أتساءل: ماذا يعني أن أعود إليها بعدَ أكثر من عقد؟ هل تمنحني الذكرى قوة؟ أم تعيدني إلى قيد جديد؟
هنا أتذكر ما قاله يوهان جوته في آلام فيرتير:
“إنه لخير للبشر لو كفوا عن تقليب ذكريات الأحزان الغابرة بخيالهم المتقد”.
علم النفس يسمي هذا بالتفكير الاجتراري (Rumination): أن تعيد تدوير الذكرى حتى تتحول إلى سجن، إلى دائرة لا تنكسر. فلسفيًا، الذاكرة قوة تثري وعينا، لكنها قد تتحول إلى لعنة إذا انقلبت إلى نبش للأوجاع. أحيانًا أُشعر أنني وأنا أستعيد صورتي في سبيرو، أجلس من جديد على الكرسي الخشبي، محاطة بالدخان والأصوات، عاجزة عن المضي قدمًا. وأحيانًا أرى أنّ استعادة تلك اللحظة تمنحني يقينًا أنني كنت ولو للحظة واحدة، حرة ومتمردة؛ المفارقة الوحيدة أنّ الذكرى نفسها تحمل الوجهين: سجن وحرية.
البحر في طرطوس ليس خلفية صامتة، بل شريك في كل الحكايات. في سبيرو كان صوت الموج يختلط بالضحكات والبحر نفسه كان شاهدًا على جلوسي هناك، الامرأة الأولى التي تكسر العادة. اليوم، حين أعود إلى البحر، أراه يتذكرني أيضًا فالبحر هنا يشبه الذاكرة البشرية واسع، مليء بالأسرار، أحيانًا يمنحك الحرية وأحيانًا يغرقك في عمق لا قرار له.
المقهى الذي كان يُعتبر رجاليًا فقط، تحول بالنسبة لي إلى مدرسة صغيرة تعلمت فيها أن النسوية ليست شعارات مكتوبة، بل فعل يومي، جسد حاضر، وصوتٌ يرفض الصمت. تعلمت أنّ الحرية قد تبدأ من مقعد خشبي في مقهى شعبي، من قرار أن لا أختفي خلف الجدران.
اليوم، بعد سنوات أفتقد سبيرو كثيراً، أفتقد الحرية التي شعرت بها هناك، وأفتقد طرطوس كما كانت! مدينة مليئة بالأحلام، بالأغاني، بالضحكات، وبالأسئلة الصعبة. كل شيء كان يشبه حلمًا عن الحرية والتمرد، حلمًا انكسر لكنه لا يزال يعيش في الذاكرة.