حروب العصر بلا كوابح

حروب العصر بلا كوابح

ما شهده العالم في الفترة الأخيرة من تصعيد علني غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، جاء بمثابة جرس إنذار يوقظ المخاوف النائمة من عودة العالم إلى زمن الحروب الثنائية. فبعد عقود من الاعتماد على الحروب بالوكالة كسلاح سياسي وعسكري، يبدو أن بعض الدول بدأت تفقد صبرها أمام ديناميكية الإنهاك المتبادل، وتختار الحسم العسكري المباشر ولو على حافة الهاوية. هذه ليست مجرد مواجهة جديدة في سلسلة توترات الشرق الأوسط، بل مشهد يعيدنا إلى سياق أوسع؛ سياق تنخرط فيه روسيا في حرب شاملة ضد جارتها أوكرانيا، وتدخل فيه الهند وباكستان في دوامة اشتباكات حدودية على وقع رادع نووي هش.

إيران وإسرائيل تنفجران علناً


المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل لم تكن كسابقاتها. لم تعد الضربات الإسرائيلية تقتصر على أهداف إيرانية محدودة، ولم تكتف إيران بالرد عبر صواريخ باليستية نادراً ما تصيب أهدافها. للمرة الأولى منذ قيام الثورة الإسلامية، يُطلق هذا الكم الهائل من الصواريخ الإيرانية مباشرة من أراضيها نحو الداخل الإسرائيلي. جاءت الضربة الإيرانية كرد مباشر على سلسلة هجمات إسرائيلية استهدفت منشآت نووية وعسكرية إيرانية، وأودت بحياة قيادات رفيعة في الحرس الثوري. ردت طهران بإطلاق مئات الصواريخ، بعضها من طراز فرط صوتي، في تصعيد غير مسبوق استمر لثلاثة أيام، وأصاب منشآت عسكرية ومواقع استراتيجية إسرائيلية.

لم يعد الصراع إذاً خفياً أو محصوراً بعمليات استخباراتية، بل تحوّل إلى مواجهة شاملة تُقصف فيها العواصم، ويُطلق الإنذار في كل المدن. إسرائيل، من ناحيتها، رفعت حالة التأهب إلى الدرجة القصوى، فيما بدا للجميع أن “إسرائيل كلها تحت النار”، كما وصف أحد قادتها العسكريين. لم تكن هذه التطورات مفاجئة فقط بحجمها وسرعتها، بل بخروجها الصريح عن مألوف الصراع القائم منذ أربعة عقود بين طهران وتل أبيب. لكن أخطر ما في هذا التصعيد، أنه قد يشكل سابقة، إذ لم يعد الردع التقليدي وحده كافياً لاحتواء النزاع. فبينما كان يُعتقد أن كلفة المواجهة المباشرة كافية لردع الطرفين، فإن التطورات أظهرت أن الحسابات تغيرت. الأرجح أن كلا الطرفين أراد توجيه رسائل استراتيجية تتجاوز مجرد الرد، وتطاول حسابات الردع الإقليمي والدولي. غير أن اللعب بالنار في منطقة مشبعة بالتوترات كهذه قد لا يسمح بهوامش كثيرة للسيطرة، خصوصاً إذا اتسعت رقعة الصراع لتشمل دولاً أخرى.

روسيا وأوكرانيا: حرب كسرت السلم الأوروبي


إذا كانت مواجهة إيران وإسرائيل لا تزال في طور التصعيد المحسوب حتى لو أُعلن عن إنهاء الصراع، فإن الحرب الروسية الأوكرانية تجاوزت ذلك منذ اللحظة الأولى. الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022 أعاد إلى الذاكرة مشاهد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بسبب دباباته وصواريخه، بل بسبب الخراب الواسع والنزوح الجماعي والانهيار الاقتصادي. لم تكن هذه الحرب مجرّد خلاف حدودي، بل لحظة مفصلية أنهت مرحلة طويلة من السلم الأوروبي، وأثبتت أن القوة العسكرية لا تزال وسيلة مفضلة لبعض الدول لتحقيق أهدافها.

لم تكن البداية في 2022. فمنذ 2014، دعمت روسيا الجماعات في دونباس، واكتفت بتأطير الصراع ضمن “الحرب بالوكالة”. لكن عندما قرر الرئيس بوتين غزو أوكرانيا، تحولت المعادلة، ودخلت المنطقة في أكبر حرب أوروبية منذ عقود. أكثر من 8 ملايين لاجئ، ومئات الآلاف من الضحايا، ودمار هائل في البنية التحتية. كل ذلك جعل من هذه الحرب مرآةً عاكسة لما قد يحدث إن انهار الردع وانطفأت لغة العقل. كما شكّلت الحرب أيضاً نقطة انعطاف في السياسات الدفاعية العالمية، إذ أطلقت سباق تسلّح غير مسبوق، وشجّعت قوى تقليدية على تغيير عقيدتها العسكرية، كما حصل في ألمانيا وفنلندا والسويد.

لكن الأخطر من الخسائر المادية، هو تطبيع فكرة الحرب المباشرة بين الدول الكبرى. فما دامت روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن، تخترق السيادة الأوكرانية بهذا الشكل، وتجد نفسها مدعومة أو محايدة من قوى دولية أخرى، فإن فكرة اللجوء إلى الحرب لم تعد مستبعدة حتى من قبل دول تملك ترسانات نووية أو عضوية في مؤسسات دولية.

الهند وباكستان: نزاع مزمن على فوهة الردع النووي


منطقة جنوب آسيا ليست غريبة عن مشهد التصعيد المباشر، لكنها تشكّل حالة خاصة. صراع مزمن بين قوتين نوويتين، يختلط فيه التاريخ بالهوية والدين بالسياسة. منذ العام 1947، خاضت الهند وباكستان ثلاث حروب كبرى، ومئات الاشتباكات. وفي كل مرة، كانت كشمير نقطة الاشتعال. لكن منذ إعلان الدولتين عن امتلاكهما للسلاح النووي في العام 1998، بات الصراع مشلولاً بردع متبادل، أشبه برقصة على الحافة. على الرغم من ذلك، لا تمر سنة من دون أن نشهد اشتباكاً حدودياً، أو تبادلاً للضربات كما حدث في أيار 2025، حين ردت الهند على هجوم في كشمير بضربات جوية، بينما أعلنت باكستان عن إسقاط طائراتها.

هذا الشكل من التصعيد المدروس، إن جاز التعبير، يُظهر أن امتلاك السلاح النووي لا يعني انتهاء الصراعات، بل فقط تعقيدها. فكل هجوم يحمل خطر انزلاق الأمور إلى كارثة غير مقصودة. ويكفي أن يُخطئ رادار، أو يسيء قائد ميداني التقدير، ليتحول الاشتباك إلى حرب شاملة. في هذا السياق، تبدو الخصومة الهندية الباكستانية أقرب إلى “النزيف البارد”: توتر دائم، سلام هش، وخصومة مستمرة على خلفية رادعة.

الردع في العصر الحديث


في العقود التي تلت الحرب الباردة، ساد اعتقاد شبه راسخ بأن الردع العسكري، خصوصاً النووي، كفيل بمنع اندلاع الحروب الكبرى بين الدول. هذا الاعتقاد استند إلى منطق بسيط ومخيف في آن واحد. إذا كانت كلفة الحرب الشاملة مضمونة التدمير، فلن يجرؤ أحد على إشعال فتيلها. غير أن أحداث السنوات الأخيرة، من حرب أوكرانيا، إلى تصاعد التوتر في آسيا، وصولاً إلى المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، زعزعت هذه القناعة، وأعادت طرح السؤال من جديد: هل لا يزال الردع فعالاً؟

الحقيقة أن الردع لم يعد مطلقاً ولا مضموناً كما كان يُظن. ففعاليته مشروطة بعقلانية الأطراف، وبتوافر قنوات تواصل وتقدير دقيق للكلفة المتبادلة. لكن الواقع الحالي يُظهر أن بعض الدول لم تعد تتحرك وفق منطق “الكلفة والمنفعة” الكلاسيكي، بل باتت تقامر في السياسة الخارجية لتحقيق أهداف وجودية أو أيديولوجية، حتى لو كان الثمن غالياً. إضافة إلى ذلك، يتآكل الردع في عصر تتعدد فيه مصادر التهديد. من الحرب السيبرانية، إلى الهجمات بالطائرات المسيّرة، إلى الفاعلين غير الدوليين الذين لا تؤثر فيهم قواعد الردع التقليدية. كما أن صمت المجتمع الدولي أو تردده في فرض عقوبات صارمة، كما حدث مع بعض النزاعات، يبعث برسالة خاطئة بأن الردع لم يعد مدعوماً بإرادة سياسية دولية قوية.

العالم أمام فوهة البركان.


اليوم، العالم أمام لحظة مفصلية. فقد نكون فعلاً قد دخلنا مرحلة جديدة تُهيمن عليها الحروب المباشرة، وتُفتح فيها أكثر من جبهة، كما حصل في بدايات القرن العشرين. المطلوب اليوم ليس فقط إدانة التصعيد، بل إنتاج أدوات جديدة للردع والاحتواء. فعلى الرغم من أهمية التصريحات الدولية التي تندد بالتصعيد العسكري وتدعو إلى التهدئة، إلا أن الاكتفاء بالإدانة بات غير كاف في عالم سريع الاشتعال ومتقلّب الحسابات. البيانات الدبلوماسية وحدها لا توقف الصواريخ، والمناشدات الأخلاقية لا تردع الطائرات الحربية. المطلوب اليوم يتجاوز لغة الشجب، ليصل إلى تطوير أدوات جديدة فعّالة للردع والاحتواء تتناسب مع طبيعة التهديدات الراهنة وتعقيداتها.

أول هذه الأدوات يجب أن يكون إعادة تعريف الردع نفسه. فقد نشأ الردع التقليدي في ظل الحرب الباردة على فرضيات امتلاك السلاح النووي وتوازن الرعب، لكنه لم يعد كافياً أمام لاعبين غير عقلانيين أو أنظمة مستعدة للمخاطرة. ما نحتاجه اليوم هو ردع ذكي متعدد الأبعاد، لا يعتمد فقط على التهديد باستخدام القوة، بل يشمل تقنيات متقدمة في الأمن السيبراني، وآليات اقتصادية ضاغطة، وشبكات رد فعل سريع على المستوى الإقليمي والدولي.

بمعنى آخر، يجب أن يشعر أي طرف يفكر في المبادرة بالتصعيد أنه سيواجه جبهة شاملة لا تقتصر على الخصم المباشر، بل تشمل المجتمع الدولي ومؤسساته النافذة. ثانياً، يجب تطوير آليات احتواء ديناميكية قبل وقوع الصدام، وليس بعده. الاحتواء لم يعد مجرد إرسال قوات حفظ سلام أو إطلاق جولات تفاوض فارغة، بل يتطلب وسائل استباقية مثل لجان إنذار مبكر إقليمية، ونقاط مراقبة مشتركة في مناطق النزاع، ومنصات تواصل عسكري مباشر بين الخصوم لتفادي سوء الفهم أو الحوادث غير المقصودة.

تعليقاً على التصعيد الإيراني الإسرائيلي، قال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: “ليس من الشجاعة أن تنتصر في معركة قصيرة، بل أن تؤسس لسلم طويل”. هذا السلام، إن لم تتم صيانته، فقد لا يملك العالم ترف استعادته لاحقاً.