7 Jun 2025
Like this post
في وقت تتسابق فيه الدول للانضمام إلى قطار السلام في الشرق الأوسط، يبقى لبنان الدولة الوحيدة في منطقته التي تعيش عقدة سياسية وفكرية حول مفهوم السلام.
هذه العقدة المرتبطة بتاريخ من الحروب والخطابات العقائدية تمنع لبنان من أن يرى مصلحته القومية والاقتصادية بعين واقعية بعيدًا من الشعارات الشعبويّة والأحلام المطلقة. فالسلام في لبنان لا يُناقَش كخيار عقلاني بل يُصوَّر كخيانة، والقبول به يُعامَل وكأنّه تنازل عن المبادئ، في حين أن كثيرًا من هذه المبادئ لم تُترجم يومًا إلى نتائج ملموسة تنعكس على حياة الناس.
لم يكن حزب الله يخفي يومًا سعيه “الدون كيشوتي” لمحو إسرائيل عن الخريطة، واليوم، وعلى الرغم من تغيُّر الشعار صوريًّا، لا يزال هذا المنطق يُقيّد لبنان في موقع الصراع الدائم.
فالتحالف مع إيران وخطاب “من يريد السلام هو عميل” عزل لبنان عن العرب وعن الغرب وكبح فرصه في النموّ والازدهار.
أكثر من ذلك، فإن تبنّي خيار السلاح كأداة للتفاوض والوجود السياسي، لم يترك مجالًا لأي خيار دبلوماسي فعلي، بل جمد النقاش السياسي في دوائر تقوم على التهديد والاستقطاب.
من ناحية أخرى، ينشر أتباع بعض التوجهات الفكريّة في لبنان نظريات المؤامرة والرفض المطلق للسلام، ويواصلون ترويج أن كل ما يحصل مُرتَّب من الهيمنة الامبرياليّة والصهيونيّة والنظم العالمية الجديدة، متناسين طبيعة الإنسان ومسار التاريخ القائم على المصالح والعلاقات المتحولة.
أما اللبنانيّون، وخاصّةً الجنوبيّين في معظمهم، فلم يجدوا مَن يحميهم لفترات طويلة من الاعتدائات الإسرائيليّة المتكرّرة، وكان يُصوَّر إليهم دائمًا أنّهم محطّ استهداف، من دون أن يربطوا بين هذه الإعتدائات ووجود فصائل مسلّحة لبنانيّة وأجنبيّة منذ عقود في أرضهم، تأخذ اسرائيل ذريعةً لاستكمال مشاريع مموّليها.
ويُطلب من ذاك المواطن الجنوبيّ أن يكون مناضلًا ومدافعًا ومقاومًا، وفي الوقت نفسه صابرًا على الجوع، ومحرومًا من الماء والكهرباء والدواء والتعليم. حتى بات السلام بالنسبة إليه فكرة مشوَّهة، بينما هو في الحقيقة أحد السّبُل المتاحة للخروج من دوامة الإنهيار.
ولعلّ ما وصلت إليه سوريا من انفتاح مباشر وغير مسبوق على السلام، ودول إقليميّة والفلسطينيّون أنفسهم في اتصالات مباشرة مع إسرائيل، يجعل من موقف لبنان ورفضه للسلام إنعزالًا طوعيًّا عن العالم، ويفتح الباب للسقوط من جديد والتورّط في مزيد من الحروب والانهيارات.
فالسؤال بات يُطرح: ما الذي يمنع لبنان من القيام بخطوة مماثلة تحفظ سيادته وتفتح أبواب العالم أمامه؟ وهل يعقل أن يبقى لبنان أسير خطاب راديكالي في حين أنّ مُموّلي هذا الخطاب أنفسهم باتوا يتجهون إلى التسويات والانفتاح والتعاون؟
فالسلام هو خيار إستراتيجي لبناء مستقبل، وإعادة الاعتبار للدولة ومؤسّساتها وإقتصادها وشعبها.
فمن دون شبكة علاقات دوليّة فاعلة، لا يمكن للاقتصاد اللّبناني أن يتعافى، ولا للمجتمع أن يستعيد تماسكه. والمطلوب اليوم هو إعادة تعريف المصلحة الوطنيّة، بعيدًا من لغة التّخوين، ومنظومات الحرب، التي أثبتت فشلها الذريع في الداخل اللبناني.
ولبنان لا يمكنه الاستمرار في هذا العزل الطوعي، وبدلًا من الاستمرار في إدمان المواجهة، لا بد من فتح باب السلام والمصالحة مع العالم أجمع، إنطلاقًا من أولويّات الشعب وحقوقه، لا من أجندات أيديولوجية مفروضة من الخارج. وهنا، تُطرح المعادلة: السلام لا يُفرَض، بل يُصنَع، ولا يُصنَع إلّا بجرأة تغيير في العقول والنوايا والسياسات.
وإذا كانت كلفة السلام على لبنان، لعقود، قد بدت عالية — أخلاقيًا، وعقائديًا، و«عنفوانيًا» — فإن الأشهر القليلة الماضية كافية لتُظهر أن كلفة الحرب على الناس، على حياتهم وأرزاقهم وبيوتهم وأولادهم، هي أكبر بما لا يُقاس من أي ثمن يُدفع في سبيل السلم ووقف القتال والعيش بسلام.
فهل يكون العقد المقبل، عَقد السلام اللبناني، بعد أن اختبرنا الحروب والانقسامات والتبعيّات؟ وهل تُفتح النوافذ والأبواب السياسيّة على العالم بعد انعزال أدّى إلى انهيار غير مسبوق؟ الإجابة رهن بقدرتنا على كسر العقدة… لا تكريسها.