دوّامة العمر الحديث

أزمة منتصف العمر، ذاك المصطلح الذي يطفو كثيراً على السطح في أيامنا، يُختصر في لحظة حيرة وصمت، يتأمل فيها الإنسان نصف عمرٍ مضى كأنه هُدر، بلا أثرٍ يُذكر. غير أن التمعّن في هذا التعبير يكشف عن جانب آخر: أنه من إفرازات العصر الحديث، أو لنقل من ابتكارات بعض مدربي التنمية البشرية وعلم النفس، ممن يجدون فيه وسيلة لجذب المزيد من العملاء والدفع نحو الجلسات والدورات. فهل حقاً بلوغ الأربعين مصيبة تهوي على الرجال والنساء معاً؟

أزمة منتصف العمر

مصطلح دخيل لم نألفه، يوحي بأن بلوغ الأربعين أشبه بكارثة تستدعي التأمل والقلق، وكأن الدخول في هذا العقد يجعلك تلقائياً عضواً في نادٍ غامض من أندية القرن الحادي والعشرين. مصطلح أربك البعض حتى خارت عزيمتهم، إذ رأوا في سنواتهم الأربعين الأولى عمراً ضائعاً، وباتوا يبحثون عن مخرج… لكن أي مخرج؟ وهل منتصف العمر كارثة حقاً؟

محاضرات لا تُعدّ ولا تُحصى تدور حول هذا المصطلح، حتى وقعت على تغريدة تصفه بـ”فترة من انعدام الأمن، والشك، وخيبة الأمل في الحياة المهنية والعلاقات والوضع المادي”. صديقي، مثل هذه المشاعر قد تصيبك في أي مرحلة من عمرك، لا في منتصفه فحسب. وهناك تغريدة أخرى تقول: “هي المرحلة ما بين المراهقة وأوائل الثلاثينات، وتبلغ ذروتها في منتصف العشرينات”. أي صدمة هذه! تخيّل أن تكون لا تزال تكافح في دراستك وبدايات عملك، ويُقال عنك إنك تعيش أزمة منتصف العمر، وتُوصف بانعدام الأمل وخيبة المآل في مسيرتك المهنية! وأي مسيرة مهنية تلك، إن كانت بالكاد بدأت تتشكّل؟

يرى بعضهم أن الأزمة كامنة في مرحلة الشباب نفسها، وكأن العمر كله صار حقل أزمات. ومن يدري؟ ربما بعد أعوام تصبح “أزمة منتصف العمر” من نصيب طلاب الروضة، حين يفقد الطفل شغفه بجمع النقاط في لعبته المفضلة، أو يتكاسل عن حفظ حروف الهجاء. ومن يعلم؟ لعلها يوماً تُنسب إلى الجنين.

العمر ليس معادلة

أنصت جيداً، وتخلَّ عن كل تقسيم هندسي لحياتك، سواء نصف العمر أو ربعه أو ثلثه. من الطبيعي أن تمر بلحظات اضطراب، في العمل أو العلاقات أو غيرها، فهذا ليس عيباً بل هو جزء من دورة الحياة. نبدأ أطفالاً نحبو، ثم نزحف، ثم نمشي، وهكذا نمضي. لكل مرحلة صعوباتها ومزاياها، ولكل منها طريقتها لتحقيق أفضل ما يمكن.

في المرحلة الثانوية، كان امتحان الفيزياء يشكّل أكبر المخاوف، لكن في المقابل، كانت تلك الفترة غنية بالتجارب، وبعلاقات لا تُنسى مع أصدقاء العمر، وبفرص وفيرة للتعلّم وممارسة الرياضة، قبل أن تسرقك مشاغل الحياة ومسؤولياتها. أما في العشرينات، فالنضج يبدأ بالتشكّل، والعمل ينطلق، سواء في مجالك أو خارجه، وتبدأ الاستعدادات للزواج وسواه، يقابل ذلك صعوبات كضيق سوق العمل، وكونك لا تزال في بداياتك، تحتاج إلى الوقت والجهد والحركة.

لذلك، يا صديقي، كل مرحلة من حياتك تحمل تحدياتها كما تحمل مميزاتها وعيوبها، وأنت وحدك من يملك القدرة على اقتناص أفضل ما فيها. ولا تنسَ أن نصيحة واحدة من مجرّب قد تختصر عليك سنوات من التجربة والخطأ.

حين يُزهر العمر

غالباً ما يُسلَّط الضوء على سن الأربعين في سياق ما يُعرف بأزمة منتصف العمر، وكأنها مرحلة يخيّم عليها التشاؤم أو اليأس. والحقيقة أن الأربعين هو سن النضج الحقيقي، حين تتراكم الخبرات في ميادين الحياة العملية والعاطفية والاجتماعية. سن يكون فيه الإنسان قد كوّن أسرة يحبها ويهتم بها، فكيف تُعد هذه المرحلة أزمة؟

لا ندّعي أن الحياة ستكون وردية في أي مرحلة منها، فهي بطبعها مجبولة على الكدّ والتعب. لكن ما نطرحه هنا هو تفنيد لمصطلحٍ بات يتسلل إلى أذهان كثيرين، فإذا مرّ أحدهم بأزمة في هذا السن، ظنّ أنه وقع في فخ “أزمة منتصف العمر”. العجيب أن الأجيال السابقة لم تعرف شيئاً من هذا، وكانت تمضي في حياتها من دون التوقف عند مصطلحات وُلدت في عالم رأسمالي يرى الإنسان آلة لا بد أن تكون مثالية ومنتجة بلا انقطاع. رفقاً بنفسك، يا صديقي، فقد أنجزت الكثير، وستنجز أكثر. فلا تُحمّل روحك عبءَ مصطلحات جوفاء توهمك أن ما لم يُقَس بالإنتاج، لا يُعدّ نجاحاً. كل هذا محض عبث.

لديك عائلة جميلة ودافئة، وأطفال مميزون يملؤون البيت حياة، ومهنة كريمة تكفيك مؤونة السؤال وتكفل لبيتك الاستقرار، وزوجة، وإن شابها بعض النكد أحياناً، تحبك بصدق لا يُضاهى… فماذا تطلب أكثر من ذلك؟

تأمّل النِعم من حولك، وستدرك أن ملايين يتمنون ربعها، بل أقل من ذلك، ثم تأتي وتحدّثني عن أزمة منتصف العمر؟ رُوَيْدَك… تأنَّ فيما تقول.

في ختام الحديث، مصطلحات كأزمة منتصف العمر أو ربع العمر يتعامل معها البعض بحسن نية، معتبراً أنها تعبّر عن مشكلات تواجه الشباب والفتيات في مراحل عمرية معينة، ويسعى لتقديم حلول. لا اعتراض على ذلك، ما دام الهدف نبيلاً، لكن من دون أن نرسّخ مفهوم “أزمة العمر” في الوعي، فلا يتحوّل إلى ذريعة تُبرّر التقاعس عن مواجهة صعوبات الحياة.

وتذكّر أن جدّي وجدّك، وسائر أجدادنا، عاشوا حياتهم من دون أن يسمعوا بهذه المصطلحات، وكانت حياتهم أبهج وأقرب إلى الناس. واجهوا الواقع كما هو، من دون ضجيج المنصات أو اللجوء لدورات “اللايف كوتشينغ” طلباً لعبارات جوفاء من قبيل “أنت قادر” و”أنت تستحق”. فأين الحلول العملية؟ ركّز في حياتك، وابحث عن المعنى، ولا تركض خلف المصطلحات حتى لا تُهلك نفسك بيدك.