الغرب وحقوق الإنسان: مبادئ زائفة وممارسات مدمرة
أغسطس 27, 2024
A-
A+
ينشر هذا المقال بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكرة والمتمحورة حول المواطنين في الإعلام اللبناني.
تُعد قضيّة التناقض بين المبادئ والقوانين المقرّرة والممارسات الفعليّة إحدى القضايا الشائكة والمعقدة في السياسات الدولية، ويظهر هذا التناقض بشكل ملحوظ عندما نجد دولاً تُعْرَفُ بأنها رائدة في مجال حقوق الإنسان، وتتبنى قوانين صارمة تهدف إلى حماية هذه الحقوق، إلا أنها في الواقع تتورط في انتهاكات جسيمة لمبادئ حقوق الإنسان. هذا التباين بين ما تروّج له هذه الدول من قيم ومبادئ وما يتم ممارسته على أرض الواقع يُعْدُّ علامة فارقة في تعقيد العلاقات الدولية وتحدٍّ كبير أمام الجهود العالمية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان بشكل فعّال.
انتهاكات فترة الاستعمار في الأميركيتين
بدأت أولى انتهاكات القوانين المتعلّقة بحقوق الإنسان خلال فترة الاستعمار في الأميركيتين، حيث قام الأوروبيون بتأسيس وتطوير دول قامت على مبادئ حقوق الإنسان المعلنة. ومع ذلك، ارتكبوا فظائع بحق السكان الأصليين. فقد أصدرت الولايات المتحدة قوانين ودساتير تهدف إلى حماية حقوق الأفراد، ولكن التاريخ يكشف أن الأمريكيين كانوا أول من اعتدى على أراضي الهنود الحمر، وقاموا بتوسيع مستعمراتهم على حساب حقوق هؤلاء السكان الأصليين. كما أنشأوا مدارس داخلية لغرض القضاء على ثقافتهم ولغتهم الأصلية، مما يعكس تبايناً صارخاً بين المبادئ المعلنة والأفعال الواقعية. بالإضافة إلى ذلك، نفذوا عمليات إبادة وتهجير قسري أدت إلى انخفاض كبير في أعداد السكان الأصليين.
في الوقت نفسه، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية كانت السبّاقة في تشريع قانون حقوق الإنسان، فإنها لا تزال تمتلك قوانين وممارسات تتناقض مع المبادئ الأساسية لهذه الحقوق. فعلى سبيل المثال، تبقى عقوبة الإعدام قانونية في العديد من الولايات، مما يثير تساؤلات حول مدى التزام البلاد بحقوق الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، تواجه قضايا بارزة تتعلق بالتمييز ضد الأقليات العرقية والإثنية، حيث تتعرض هذه الجماعات لظروف غير عادلة في مجالات مختلفة مثل التعليم والتوظيف والعدالة الجنائية. تثير أيضاً مسألة التعذيب في السجون وممارسات الاعتقال بدون محاكمة انتقادات شديدة من منظمات حقوق الإنسان، التي ترى فيها انتهاكات واضحة لمبادئ حقوق الإنسان.
الانتهاكات الإسرائيلية في غزة وجنوب لبنان
وخلال حرب إسرائيل الحالية على غزة، وما يتبعها من إبادة للشعب الفلسطيني، حيث يتعرض المدنيون، بما في ذلك الأطفال، للهجمات، وتُستهدف المدارس والمستشفيات، تضاف إلى هذه الجرائم الانتهاكات التي شهدها جنوب لبنان، بما في ذلك استهداف الأطفال والمدنيين واستخدام الفسفور الأبيض، الذي يُعتبر سلاحاً محظوراً دولياً بسبب آثاره المدمرة والبعيدة المدى. بينما تبقى الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا واليابان صامتة أو مترددة في اتخاذ مواقف حاسمة، يكشف هذا الصمت والتقاعس عن التناقض بين المبادئ المعلنة لتلك الدول والتزامها الفعلي بحقوق الإنسان. كما يبرز تأثير المصالح السياسية والاقتصادية على استجابتها لهذه الأزمات الإنسانية، مما يعكس فشلاً في تحقيق العدالة والضغط الفعال لمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
تحليل الدكتور عمر نشابة
بدوره، أشار الخبير في قضايا العدالة والقانون الدكتور عمر نشابة، إلى أن “حقوق الإنسان تُعد من القضايا الأساسية في القانون الأميركي، ولكن يبدو أن تطبيق هذه الحقوق ليس شاملاً، حيث تُستثنى منه بعض الفئات، موضحاً أن الأفراد الذين يعارضون السياسات الأميركية، بما في ذلك الجماعات الثورية اليسارية أو المجموعات التي ناضلت ضد المصالح الأميركية في آسيا وأوروبا وأميركا اللّاتينية، يتم تصنيفهم كـ”مجموعات إرهابية” ويُعاملون خارج إطار حقوق الإنسان. كما لفت إلى حالة سجن غوانتانامو، حيث يتعرض السجناء للتعذيب ولا يُعاملون وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان.
وفيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة وما يتبعه من قتل الأطفال والنساء والمسنين، قال الدكتور نشابة إن استمرار المجازر والإبادة الجماعية لقرابة عشرة أشهر، بدون تحرّك جدّي من المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة، يُظهر بوضوح أن حقوق الإنسان لا تُطبق على الجميع، مؤكداً أن “الموقف المقاوم للاحتلال الإسرائيلي يُعتبر تحدياً للأجندة الأميركية، إذ يُعتبر الكيان الصهيوني حليفاً أساسياً للولايات المتحدة، وبالتالي يُعتبر معارضوه “معادين للأجندة الأميركية”.
وكشف أن المحاكم الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ومجلس الأمن الدولي، مسؤولة عن الحفاظ على السلم والأمن الدولي وتطبيق القوانين والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان، ولكنها تفتقر إلى القدرة على فرض حقوق الإنسان على الدول، لأن الأمم المتحدة والمحاكم الدولية تعمل وفق إرادة مجلس الأمن الذي يمتلك الأميركيون فيه حق الفيتو، مما يسمح لهم بتعديل أي قرارات تتخذ ضد الدول التي تنتهك حقوق الإنسان.
تأثير المصالح على المبادئ الإنسانية
وأكد الدكتور نشابة أن “المصالح تتفوّق على المبادئ في معظم الدول، حيث اتّسعت الفجوة بين المصالح والمبادئ”. وقال: “بعد عشرة أشهر من مشاهد القتل والدمار، نرى أن المسؤولية الإنسانية قد تآكلت، حيث أظهرت الأنانية الفردية للدول عدم اكتراثها بقتل الأطفال والأبرياء، مفضلةً مصالحها الشخصية على المبادئ الإنسانية”. كما أشار إلى أن تقدّم المصالح على المبادئ يُقوض مفهوم حقوق الإنسان، الذي يرتبط بكرامة الناس وحقوقهم الأساسية، معتبراً أن العالم أصبح أكثر اهتماماً بجمع الثروات والاستهلاك على حساب كرامة الإنسان وحقوقه.
تحليل المحامية والحقوقية ديالا شحادة
وفي السياق القانوني المتعلق بالصراع الإسرائيلي في غزة وجنوب لبنان، سلّطت المحامية والحقوقية ديالا شحادة الضوء على النصوص القانونية الأساسية، وأبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف، المعروفة بالقانون الإنساني الدولي. وأشارت شحادة إلى أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب خطيرة وغير مسبوقة في العصر الحديث، والتي تصنف ضمن الجرائم الدولية، حيث تستهدف عدداً كبيراً من المدنيين سواء في النزاعات المسلحة أو غير المسلحة. وأكدت أن التقارير الصادرة عن وكالات الأمم المتحدة، التي تتمتع بقدر كبير من الحيادية وتعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، توثق ارتكاب الكيان الإسرائيلي لجرائم حرب تشمل القتل العمد للمدنيين، واستخدام التجويع كأداة للحرب، واستهداف المباني المحمية بموجب القانون الدولي، وجرائم تتجاوز حد الإبادة الجماعية المستمرة.
تاريخ الانتهاكات الإسرائيلية
أشارت شحادة إلى أن الانتهاكات لم تبدأ مع النزاع الحالي، بل كانت قائمة منذ فترة طويلة قبل ذلك. وقد استعرضت الجرائم السابقة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، مثل الاستيطان، والفصل العنصري، والقتل العمد، وانتهاك حقوق السجناء. وأوضحت أن المحكمة الدولية للعدل، وهي أعلى هيئة قضائية دولية، أصدرت ثلاث قرارات بشأن هذه الانتهاكات. ورغم أن قرار الشكوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية لم يُصدر بعد، فإن القرارات المؤقتة قد أكدت احتمالية وقوع هذه الجرائم وطلبت من إسرائيل إيقاف أعمالها ضد المدنيين. وأضافت أن صدور هذه القرارات بشكل متكرر يعكس استمرار إسرائيل في ارتكاب هذه الانتهاكات.
مذكرات التوقيف ضد المسؤولين الإسرائيليين
وأكدت شحادة أن العالم ينتظر صدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بسبب ارتكاباتهما، لافتة إلى التهجير القسري واستهداف النازحين والأطفال والنساء والمستشفيات، بالإظافة إلى استهداف موظفي السلام، الذي يُعتبر جريمة حرب تتميز عن غيرها من الجرائم الدولية، حيث يعتبر استهداف موظف واحد أثناء أداء مهامه جريمة حرب كُيرى.
وأكدت شحادة أن مذكرات التوقيف التي ستصدر مستقلة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأوضحت أن المحكمة الجنائية الدولية تسعى إلى تقديم رادع شخصي من خلال ملاحقة الأفراد وليس دول، ما يقضي على مستقبلهم السياسي ويمنعهم من دخول العديد من الدول، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، مما يشكل رادعاً للسياسيين الآخرين لعدم ارتكاب الانتهاكات نفسها.
تورّط الولايات المتحدة الأميركية في دعم إسرائيل
ورأت شحادة أن الولايات المتحدة ليست صامتة وحسب، إنما تُعد شريكة في نظر الكثير من الحقوقيين، حيث لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في حربها من دون الدعم العسكري الهائل الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة، الذي يتواصل حتى اليوم. وأضافت أن الولايات المتحدة تحمي إسرائيل على مستوى مجلس الأمن، مانعة صدور أي قرار ضدها، وذكرت أن معظم قرارات الفيتو التي قدمتها واشنطن كانت لحماية إسرائيل.
الجرائم الإسرائيلية في الجنوب اللّبناني
كما شددت على أن إسرائيل ارتكبت أيضاً جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في جنوب لبنان، سواء في الوقت الحاضر أو في السابق، مشيرة إلى مجزرة قانا التي ارتُكبت مرتين، في عامي 1990 و2006، فضلاً عن استهداف المدنيين والإعلاميين خلال الحرب الحالية. وأوضحت أن استخدام أنواع معينة من الأسلحة المحضورة دولياً أدى إلى جرائم بيئية أيضاً.
في النهاية، ليس من المفاجئ أن نرى خروقات من المنظمات الدولية والولايات المتحدة الأميركية لقوانين حقوق الإنسان، وذلك نظراً لتاريخها الطويل والحافل في هذا المجال، فعلى الرغم من أن هذه الدول قد أسّست وتبنّت مبادئ وقوانين تدعو لحماية هذه القوانين، إلّا أن الواقع يبرز تبايناً واضحاً بين ما يتم الترويج له وبين ما يتم تطبيقه فعلياً. هذا التناقض بين المبادئ المعلنة والممارسات الواقعية يعكس التحديات العميقة التي تواجه المجتمع الدولي في سعيه لتعزيز وحماية حقوق الإنسان بفعالية.
من فترة الاستعمار إلى العصر الحديث، كانت هناك فجوة كبيرة بين المُثُل التي تروّج لها الدول وبين أفعالها على أرض الواقع، حيث شهدنا في الماضي انتهاكات جسيمة ترتكبها القوى التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان. اليوم، يستمر هذا التناقض في الظهور من خلال سياسات وقرارات الدول الكبرى التي تؤثر على الاستجابة للأزمات الإنسانية الكبيرة.
التحديات التي تواجه حقوق الإنسان ليست مجرد مسألة تطبيق القوانين، بل تتعلق بالاختيارات السياسية والمصالح التي غالباً ما تفوق المبادئ الأخلاقية. إن ضمان حماية حقوق الإنسان يتطلّب التزاماً حقيقياً وقوياً من جميع الأطراف المعنيّة، وليس مجرد أقوال نظرية تفتقر إلى تطبيق عملي يراعي كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. في ظل هذا الوضع، يبدو أن العالم قد أصبح أكثر اهتماماً بتحقيق مصالحه الشخصية بدلاً من تعزيز القيم الإنسانية، مما يستدعي ضرورة إعادة النظر في السياسات والممارسات لضمان تحقيق العدالة والكرامة لجميع الأفراد.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي